للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد استند بعض من لا حظ لهم من فقه الشريعة الإسلامية على هذه القاعدة للمطالبة بتغيير كثير من الأحكام الشرعية، بدعوى أنها لم تعد تصلح لهذا الزمان (١) وهذا يقتضي أن نبين أولًا: مضمون هذه القاعدة ثم نورد بعض تطبيقاتها بما يناسب هذا البحث، حتى نستطيع تحديد طبيعة هذا التغيير.

٤٤- أولا: مضمون القاعدة:

لا ينبغي أن يفهم من هذه القاعدة إمكان تبدل الأحكام بصفة مطلقة، ذلك أن الأحكام في الشرع الإسلامي على ضربين:

(أ) حكم قطعي بني على صريح النص من الكتاب أو السنة أو على الإجماع ومثل هذا الحكم لا يجري عليه تغيير، لأن تغييره يعد نسخًا لحكم شرعي ثابت، وإنه لا يجوز بعد انقضاء عصر الوحي، مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة وضروب الاجتهاد " كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه " (٢) .

(ب) حكم ظني تقرر بناء على الاجتهاد في فهم النص، أو على مراعاة عرف صحيح قائم، وهذا هو الذي يمكن أن يتطرق إليه التبديل، لاختلاف مناهج المجتهدين، أو لتغير الأعراف تبعًا لتغير الأزمان والأماكن وظروف البيئة وفي هذا يقول ابن عابدين: " اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة، لم يخالفوه إلا لتغير الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه، مما يستخرج به الحق من ظالم أو يدفع دعوى متعنت ونحوه بعدم سماع دعواه أو بحبسه أو نحوه " (٣) ومثله ما ذكره القرافي من أن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك.. وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه.. وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك.. فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين (٤) وقد عقب ابن القيم على كلام القرافي هذا بقوله: وهذا محصن الفقه، فمن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب، على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم، بما في كتاب من كتب الطب (٥) .


(١) أشار إلى ذلك: يوسف القرضاوي في: شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، بيروت ١٣٩٧هـ: ص ١٣٣.
(٢) ابن القيم، إغاثة اللهفان: ١ /٣٤٦ وما بعدها.
(٣) ابن عابدين، مجموعة الرسائل: ٢ /١٢٦.
(٤) القرافي، الفروق: ١ /١٧٦- ١٧٧.
(٥) ابن القيم، إعلام الموقعين: ٣ /٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>