للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ج) كتب الفقه من مختلف المذاهب مليئة بالمسائل التي بنى المجتهدون الأوائل حكمها على الأعراف والعادات التي سادت زمانهم وبيئتهم، فلما تغيرت هذه الأعراف والعادات، أفتى المتأخرون بخلاف المنصوص عليه في المذهب وصرحوا بأن هذا: اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان فمن ذلك: إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، وبعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة، وبتحقق الإكراه من غير السلطان وبتضمين الأجير المشترك، وبمنع الوصي من المضاربة بمال اليتيم، وبتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف، وبعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي، وبسقوط الشفعة إذا أخر طلب التملك شهرًا، وبعدم سماع الدعوى ممن سكت بعد إطلاعه على بيع جاره أو قريبه دارًا مثلًا، وغير ذلك (١) .

٤٦- ثالثا: طبيعة هذا التغيير:

سبق أن ذكرنا أن تغير الأحكام بتغير الأزمان لا يعد نسخًا لحكم ثابت، وإنما هو استصحاب قاعدة " اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد (٢) ، ومقتضى تلك القاعدة: " أن أمر الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة (٣) والواقع " أن للواقعة الواحدة – ذات الأحوال المختلفة – حكمين أو أحكامًا ثابتة، لكل حكم تطبيق في ظرفه الذي يختص به " (٤) ، ولعل هذا هو ما أشر إليه الشاطبي بقوله: " ... وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها " (٥) وهو ما دعا ابن القيم لأن يجعل عنوان هذا الموضوع: " فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " (٦) .

من أجل ذلك اشترط بعض المحققين في القاضي أن يكون له فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع وكذا المفتي الذي يفتي بالعرف لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله، ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام، وأنه مخالف للنص أولا، ولا بد له من التخرج على أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل (٧) .

* * *


(١) ابن عابدين، نفس المرجع: ص ١٢٤-١٢٥.
(٢) القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص ٦٧-٦٨.
(٣) القرافي، نفس الموضع المذكور.
(٤) أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص ٨٩ علي الخفيف، محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء.
(٥) الشاطبي، الموافقات: ٢ /٢٨٦.
(٦) ابن القيم، إعلام الموقعين: ٣ /٢٧.
(٧) ابن عابدين، المرجع السابق: ٢ /١٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>