للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما العرف فهو مصدر باعتبار ماهيته كما أسلفنا، ولكن اعتراف النصوص بحجيته قضية تحتاج إلى شيء من التفصيل: فالباحث يجد في القرآن والسنة أدلة عديدة تدل على مراعاة العرف واستنباط الأحكام دلالة تكون لدى المجتهد أساسًا فكريًّا وتنير السبيل أمامه (انظر: ٤، وخاصة ٤-٢ من الباب الثاني) وفي الوقت نفسه لا يمكن القول بأن النصوص تحيل المجتهد على العرف فيما لا نص فيه مباشرة، ومن ثم لا يمكن القول بكونه مصدرًا يعترف بحجيته في الشريعة الإسلامية وإذا أمعن الباحث النظر في القضية يجد في هذا الموقف أمرًا طبيعيًّا، لأن الاعتراف بمصدرية العرف لا يتفق وأسس التفكير الإسلامي وبنية فلسفة الحقوق الإسلامية وتسبب أيضًا بعض المشاكل من ناحية منهجية الحقوق (سنلقي فيما بعد نظرة عابرة على القضية من ناحية فلسفة الحقوق) .

أما من ناحية منهجية الحقوق فما يجب الانتباه إليه هو أن العرف إذا تم الاعتراف بمصدريته في الشرع فليس للمجتهد إلا القيام بتثبيت وجوده وعدم مخالفته للنصوص صراحة، ثم يكون العرف ملزمًا من الجهة الشرعية، ويسد ذلك إلى حد كبير على المجتهد إمكانية الاجتهاد من أجل التوصل إلى الحال الأنسب وإلا وقف مع روح الشريعة الإسلامية في القضية المعروضة عليه والتفكير في المقاصد العامة والخاصة للنصوص مما يمكن إيجاد رابطة بينه وبين تلك القضية بينما إذا كان العرف يلعب دوره كحجر أساسي في مناهج الاستنباط مثل الاستحسان والاستصلاح أمكن للمجتهد أن يقدم على العرف ما يجب مراعاته بالدرجة الأولى لتحقيق مقاصد الشريعة من مبادئ وإن كان العرف الوارد في القضية المعينة لا يصطدم صراحة مع النصوص.

وفي الحالة التالية تبرز بوضوح أكثر أهمية عدم الاعتراف بمصدرية العرف من ناحية منهجية القانون: في نظم الحقوق المكتوبة إذا كان العرف معترفًا به كمصدر مستقل بعد القانون، لا يمكن التحدث عن عملية ملء " فراغ قانوني " من طرف القاضي في حالة ما إذا وجد عرف القضية المعروضة ولم يوجد نص قانوني يتناول في حكمه تلك القضية، ولا يستطيع القاضي في هذه الحالة مراجعة القياس الذي هو منهج من مناهج ملء الفراغ القانوني، أما إذا لم يعتبر العرف مصدرًا مستقلًا في الحالة ذاتها يجب أن يتولى القاضي ملء هذا الفراغ ويتمتع بإمكانية مراجعة مناهج ملء الفراغ القانوني ومنها القياس فيتبين من خلال هذه المقارنة أن عدم اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا في الفقه الإسلامي مكن القياس من الحفاظ على قيمته المنهجية وقد أشرنا إلى أن القياس الوارد في " العرف يترك به القياس " ليس المقصود منه غالبًا معناه الأصولي (القياس القانوني gesetsesanalogie) ، وإنما القاعدة العامة (القياس الحقوقي rechtsanalogie) وكذلك المقصود من " العرف " فيه هو الإجماع السكوتي أو السنة التقريرية بالنسبة لبعض المسائل (١) .


(١) انظر: الباب الأول ٢-١-٢ والهامش ٥٦، ٥٧

<<  <  ج: ص:  >  >>