للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد عقد الإِمام البخاري بابًا في صحيحه تحت عنوان: باب في من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيع والإِجارة والكيل والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة.

ونقل عن شريح القاضي أنه كان يقول: سنتكم بينكم. وفي قضاء الرسول لامرأة جاءته تشتكي شُحَّ زوجها في النفقة عليها وعلى أولادها، وهو ثري لكنه بخيل، فقال لها عليه الصلاة والسلام:

((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) . أي أنه أحالها على ما جرى به العرف في هذا الشأن. وقد اعتمد الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم كثيرًا من أعراف الجاهلية الحسنة واتبعه أصحابه في ذلك والتابعون، واستمر العمل بذلك عند فقهاء الأمصار.

فالحنفية: يقولون التعيين بالعرف كالتعيين بالشرط والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا واستعمال الناس حجة يجب العمل بها ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان (١) .

يقول سهل بن مزاج في بيان الأصول التي بنى عليها أبو حنيفة استنباطه: " كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه وصلحت عليه أمورهم يمضي الأمور على القياس فإذا قبح القياس يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له فإذا لم يمضِ له رجع إلى ما يتعامل به الناس وهو العرف".

وأما المالكية: فهم يعتبرون العرف لاستنباط الأحكام عليه. يقول مالك. رضي الله عنه: "وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أثر معمول به فيه" (٢) .قاله في تعليقه على حديث خيار المجلس وتخريجه له في الموطَّأ لأن العمل في المدينة جرى على خلافه، وهو يوضح موقف أنه لو وجد حدًّا متعارفًا بين أهل المدينة في ذلك لقال به.

ويروي عنه أيضًا أنه يخصص العام بالعرف في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [سورة البقرة: الآية ٢٣٣] .

فيقول هو خاص بغير ذوات الأقدار والشرف ولا يجب على الشريفة إرضاع ولدها لأن العادة جرت بذلك. وهو يستند هنا إلى العرف مع عدم وجود الإِنكار.

قال ابن السُّبكي في جمع الجوامع: " والأصح أن العادة بترك بعض الأمور تخصيص إن أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم أو الإِجماع ومن هذا القبيل اكتفاؤهم في صحة البيع بالمعاطاة دون صيغة للإِيجاب والقبول " (٣) .


(١) انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ومثلها للسيوطي.
(٢) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، للسيوطي: ٢ /٧٩، ط. دار الفكر.
(٣) كتاب الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، للشيخ الخضر بن الحسين: ص ٣٨؛ وكتاب أصول النظام الاجتماعي، لشيخنا محمد الطاهر ابن عاشور.

<<  <  ج: ص:  >  >>