والمتتبع لكتب الفقه الإسلامي قلما يجد بابًا من أبواب الفقه لا يكون فيه للعرف مدخلًا أساسيًّا في أحكامه حتى فقه الجرائم والجنايات، ومعلوم بأن الأحكام الاجتهادية التي يقف عليها الفقهاء المجتهدون استنباطًا وتخريجًا عند عدم النص الشرعي، إما أن تكون ثابتة بطريق القياس النظري على حكم أوجبه الشارع بالنص لاتحاد العلة بين الحكم المقيس عليه والمقيس، وإما أن تكون ثابتة بطريق الاستحسان أو الاصطلاح عندما لا يوجد حكم مشابه منصوص يقاس عليه كما أن الاجتهادات الإسلامية تكاد تكون متفقة على أن الحكم القياسي يترك للعرف ولو كان عرفًا حادثًا لأن المفروض عندئذٍ أن هذا العرف لا يعارضه نص خاص ولا عام معارضة مباشرة. والعرف في نظر الفقهاء دليل الحاجة فهو أقوى من القياس فيترجح عليه عند التعارض. ومعلوم بأن ترجيح العرف على القياس يعتبر عند الحنفية والمالكية من قبيل الاستحسان الذي تترك فيه الدلائل القياسية لأدلة أخرى منها العرف، وإذا كان العرف يترجح عند السادة فقهاء الأحناف والمالكية على القياس الذي يستند إلى نص تشريعي غير مباشر فهذا يدل دلالة واضحة على أن العرف يترجح أيضًا على الاستصلاح الذي لا يستند إلى نص بل مجرد المصلحة الزمنية التي هي عرضة للتبدل بحسب اختلاف الأزمنة وما يجد فيها من أوضاع ومقتضيات. ومن هنا نص الفقهاء على أن نصوص التشريع تنبئ بأن العرف في ميدان الأفعال والمعاملات له السلطان المطلق والسيادة التامة في فرض الأحكام وتقييدها وتحديد آثار العقود والالتزامات على وفق المتعارف عليه في كل موطن لا يعارض فيه العرف نصًّا تشريعيًّا. فالعرف عندئذٍ يعتبر مرجعًا ومنبعًا خصبًا للأحكام. ونخلص مما تقدم بأن العرف الصحيح يعتبر مصدرًا أساسيًّا من المصادر التبعية للتشريع الإسلامي وينبوعًا لمعرفة القرائن العرفية ومسائل تغير الزمان الذي تتبدل فيه الأحكام بحسب الأحوال والأخلاق العامة وأن العرف مقدم على القياس المستند إلى الشبه الذاتي في العلل بين الأحكام المنصوص عليها والأحكام المقيسة ويتضح لنا أيضًا بأن الأحكام القياسية تتبدل بتبدل العرف عندما تكون علة القياس نفسها مبنية على العرف فعندئذٍ يكون هذا التبدل في الحكم تبعًا لتبدل العرف ليس خروجًا على القياس بل تمشيًّا معه.