مما لا شك فيه بين فقهاء التشريع الإسلامي، بأن العرف قد قام بدور هام في تفسير ألفاظ الأحكام وإنشاء أحكام جديدة وتعديل أحكام قائمة. ومن هنا قال علماء الأصول بأن ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه ولم يكن معارضًا لكتاب ولا سنة تجب مراعاته عند التشريع وعلى المجتهد أن يجعله نصب عينيه وعلى القاضي أن يفطن إليه ويبني قضاءه عليه لأن القرآن والسنة المطهرة قد راعيا الصحيح من عرف الناس، فأقرا الكثير من الأمور التي تعارف عليها الناس قبل الإسلام بعد أن هذبها وأدخل عليها بعض الإصلاحات، ففرض الدية على العاقلة وبنى الإرث على القرابة حتى صار العرف الصحيح الذي يتفق مع مقاصد الشريعة أصل من الأصول التي اعتمد عليها الفقهاء على اختلاف مذاهبهم في الفتاوى والأحكام، حتى جرى عرفًا على ألسنتهم وفي مؤلفاتهم قولهم: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. وقولهم: العرف عادة محكمة ونحن إذا استقصينا مذاهب الأئمة المجتهدين نجد أن فيها الكثير من الأحكام التي روعي فيها العرف الصحيح، فهذا المذهب المالكي نجده من خلال فقه المذهب يبني الكثير من أحكام على عمل أهل المدينة، وهذا هو رأي الإمام مالك رأي عنه ورأي أتباع المذهب من بعده، وليس لهم مستند غير العرف الذي ساروا عليه وألفوه أهل المدينة بعد عصر النبوة. كما نجد الإمام الشافعي رضي الله عنه يغير بعض الأحكام التي كان قد قال بها وذهب إليها عندما كان في بغداد بعد أن استقر به المقام في مصر وذلك بناء على اختلاف العرف في البلدين، كما نجد الأحناف يراعون العرف في كثير من الأحكام ففي المذهب نجد بأنه إذا اختلف المتداعيان ولا بينة لأحدهما، فالقول عندهم يكون لمن يشهد له العرف وإذا اختلف الزوجان على المقدم والمؤخر من الصداق (١) فالحكم عندهم للعرف.
وفي المذهب أيضًا أن من حلف ألا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لا يحنث بناء على العرف بل نجد الحنفية يختلفون على أنفسهم في حكم المسألة الواحدة تبعًا لاختلاف العرف؛ فقد روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان بينما يرى الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني بأن الإكراه كما يتحقق من السلطان يتحقق من غيره.
(١) انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم آخر كتاب القضاء، المراجع السابقة؛ الزرقاء: ص٨٥٣ - ٨٦٨