للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الخلاف العرفي عندهم مبني على تباين العرف في العصرين، ففي عصر أبي حنيفة لم تكن القدرة والمنعة إلا السلطان وفي عصر الصاحبين صار كل ظالم قادر على إيقاع ما هدد به من الأذى والمكروه. ومن ذلك ما عرف من اتفاق علماء الحنفية القدامى من عدم جواز أخذ الأجرة على الإمام في الصلاة وعلى الأذان، لأن الأذان عبادة وطاعة لا يجوز أخذ الأجرة عليه وهذا الحكم من عدم أخذ الأجرة على الإمامة في الصلاة مبني على العرف؛ إذ كان العرف يقضي بأخذ الأئمة في الصلاة هبات من الملوك والحكام فلما انقطعت تلك الهبات من بيت المال وتغير الحال أباح المتأخرون من الحنفية أخذ الأجرة على الطاعات ومنها الإمامة في الصلاة والأذان وتعليم القرآن فنجد أن تغاير الحكم بين العلماء القدامى والمتأخرين منشؤه اختلاف في العرف في زمانهما والمتتبع لفتاوى الفقهاء وأحكامهم يجسد البعض منهم من يخصص النص أو القاعدة الفقهية العامة بالعرف، ومن هذا الباب أجازوا الاستصناع لجريان العرف به وإن كان مخالفًا للقواعد العامة التي تقضي بوجود المعقود عليه مخصصين هذه القاعدة العامة بالعرف، وقد أجاز الحنفية بيع مكيف الهواء بشرط تعهد البائع بإصلاحه مدة معينة مع أن هذا مخالف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البيع وشرط، وذلك منهم تخصيصًا للنص بالعرف. وذلك أن العرف قد جرى على اعتبار ذلك: أي ذلك الشرط في العقود والتصرفات.

وقد جاء كثير من أحكام النصوص الشرعية يدعم العرف في كيفية طرق التعامل الذي تقتضيه طبيعة المجتمع الإنساني منتقيًا لأكمل ما كان موجودًا منها في تحقيق الغرض المقصود منه. ومن المسلم به بأنه قد كان للأمة العربية التي نزل عليها القرآن وظهر فيها التشريع الإسلامي أعرافًا يحكمون بها ويسيرون عليها كما كانت لهم ضوابط يرجعون إليها في خصوماتهم وقضائهم، فجاء الإسلام فهذب فيها وعدل وألغى وبدل. وليس في ذلك ما يضر بالتشريع الإسلامي واستقلاله في التشريع خاصة إذا علمنا بأن الإسلام دين يراد به تدبير مصالح العباد وتحقيق العدالة وحفظ الحقوق ولم يأتِ ليهدر كل ما كان عليه الناس ليؤسس على أنقاضه بناءً جديدًا لا صلة له بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع، وإنما كان ينظر إليها من جهة ما فيها من مصالح ومضار، فما كان منها صالحًا أبقاه وأقره، وما كان منها ضارًا مفسدًا للمال أو للاجتماع نهى عنه وحرمه، وما احتاج منها إلى التنقيح والتهذيب أدخل عليه من التهذيب ما جعله صالحًا كفيلًا بصلاح الناس، وقد يقر الشيء نظرًا للتعامل الشائع ويشرع من جانب آخر ما يوحي بإنهائه أو بعدم الرغبة فيه، وذلك كما صنع في الرق الذي لم يأتِ به الإسلام بل كان عرفًا متعارفًا عليه قبل مجيء الإسلام وحث على العتق وتحرير العبيد وطلب في مواضع كثيرة تكفير الذنوب والخطايا بالعتق مثل أحكام كفارة اليمين والقتل الخطأ والإفطار في رمضان والظهار، ورتب عليه في ذاته درجات عظيمة من المثوبة عند الله وأباح أيضًا قتل الأسرى جريًا على قاعدة المعاملة بالمثل، ولكن لم يجعل التشريع الدائم، وإنما جعل التشريع الدائم فيها المن والفداء، ومثال ما ألغاه من الأعراف الفاسدة كنظام التبني الذي كان متعارفًا عليه بالجاهلية.

<<  <  ج: ص:  >  >>