ومن المقرر في فقه الشرعية أن لتغيير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأحكام الاجتهادية التي تنظم ما أوجبه الشرع من تحقيق إقامة العدل بين الناس وجلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم، وبالتالي فإن هذه الأحكام الاجتهادية ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة فكم من حكم اجتهادي كان تدبيرًا وعلاجًا ناجعًا لبيئة في زمن معين فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق، ومن هنا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهائهم، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وجد الأئمة الأولون في عصر المتأخرين ورأوا اختلاف الزمان والأخلاق لعدلوا إلى ما قاله المتأخرون.
إن مما تقدم بيانه من الاعتبار الشرعي للعرف وماله من سلطان في ميدان الأحكام العملية بين الناس توليدًا وتحديدًا مشروطًا بشرائط يجب توافرها في العرف لكي يكون له هذا السلطان، وتلك الشرائط التي يذكرها الفقهاء والأصوليون في مناسباتها المختلفة هى:
(١) أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا. (٢) أن يكون العرف مقارنًا أو سابقًا. (٣) أن لا يخالف دليلًا أو أصلًا من أدلة وأصول الشريعة الإسلامية. ويقصد بالمراد العرف: بأن يكون جريان العمل به حاصلًا في أكثر الحوادث وغالبًا في معاملات الناس ويستوي في ذلك أن يكن العرف خاصًّا ببلد معين أو أبناء مهنة معينة أو يكون عامًا منتشرًا بين جميع الناس في سائر البلاد الإسلامية. ويقصد بكون العرف مقارنًا أو سابقًا: أن يكون العرف الذي يحكم الواقعة موجودًا وقت وجودها حتى يصبح حملها عليه، وعلى ذلك فلا عبرة بالعرف الطارئ ويستوي في ذلك العرف اللفظي والعرف العملي سواء كان عرفًا خاصًّا أم عامًّا..