الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مع الشكر الجزيل للأخ العارض للأبحاث، إلا أنني أعتب أنه لم يستعرض جميع الأبحاث التي قدمت في موضوع "العرف"، وكان بحثي واحدًا من هذه الأبحاث، وعندما أقدمت على الكتابة في هذا الموضوع كنت أعلم أن هذا الموضوع قد انتهى من بحثه العلماء.
فجزئياته مكررة في كتب الأصول وتكاد تكون متشابهة، والعلماء توصلوا إلى نتائج حاسمة في هذا الموضوع. إنما كتبت فيه لقضيتين أبنتهما من خلال البحث؛ القضية الأولى قضية معاصرة، إن كثيرًا من الأمم الإسلامية قدم العرف في قوانينه على الشريعة الإسلامية. لم يكتفوا بأن يقدموا القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية، بل نصوا في كثير من القوانين المدنية في البلاد العربية والبلاد الإسلامية على أن العرف مقدم على مبادئ الشريعة. وفي هذا بينت الدور في معركة الصراع بين العرف والشريعة الإسلامية عبر التاريخ. كانت الأعراف البشرية أكبر ما صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى، فعندما كان يأتي الرسول كل جماعة تقول لرسولهم:"إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، أَوْ مُهْتَدُونَ". آيتان. كل جماعة تقول: تراث آبائنا وأجدادنا وأعرافهم، فيجري صراع بين الرسل وما أنزل عليهم، وبين أقوامهم وما كان عليه الآباء والأجداد ينتهي إما بانتصار الشريعة الإسلامية كما حدث على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما بتعذيب القوم المكذبين. فعندما تنتصر الشريعة الإسلامية تقصي الأعراف الباطلة وتحصرها في دائرة ضيقة، وعندما تنتصر الجاهلية كما حدث في هذا القرن الأخير، فإن الأعراف تقصي الشريعة الإسلامية، فكثير من القوانين إنما هي أعراف كانت أعرافًا سائدة ثم حولت إلى قوانين، هذه هي القضية الأولى التي أحببت أن ألفت النظر إليها.
القضية الثانية، قضية قديمة يشكو منها العلماء عبر العصور (فقهاؤنا) ، وهي أن كثيرًا من الفقهاء يجمدون في الأحكام المبنية على العرف على الأحكام التي صدرت قديمًا من علمائنا وفقهائنا، فيوقع المسلمين في حرج شديد، وقد باح بهذه الشكوى كثير من العلماء نقلت نصوص كلامهم في بحثي، يشكون شكوى مرة من فقهاء تعرض لهم مسائل مما تغير فيه أعراف الناس فيفتون بما أفتى به الأوائل من غير نظر إلى الأعراف المتغيرة والأعراف المتجددة. وقد نص المحققون من العلماء في مختلف المذاهب أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بأحكام بنيت على العرف تغيرت أعرافها، وينبغي للمفتي أن يكون عالمًا بأعراف زمانه، وأن يكون عارفًا بالأحكام التي بنيت على العرف في الماضي.