للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول أ. د. أنكلهارد في كتابه تاريخ إصلاحات الدولة العثمانية: "وفي الحقيقة أن الإسلام الذي قد كان مؤسس الحكومة العثمانية بقي حاكمًا مطلقًا فوق الحكومة. فقد كان القانون المدني متحدًا مع القرآن، ولكون تشكيلات الأمة اشتبكت بالعقائد الدينية بحيث لا يمكن تفريق بعضها عن بعض كانت هذه التشكيلات لا تقبل التغيير كالعقائد الدينية. فوجب لتحصيل الائتلاف الذي لا تستطيع تركيا الاستمرار على الاستغناء عنه، إما إزالة الحائل في البين بالمرة، وإما تخفيف وطأته ومعناه إما أن تحول الحكومة من الروحانية إلى الدنيوية بتخليصها من تأثير القوانين الدينية كما وقع في العالم المسيحي، وإما أن تتخلص بالتدرج من الحدود والقيود الدينية عن طريق تفسير العقائد الأساسية تفسيرًا موسعًا. وللاحتراز من الحالات الموجبة لاشمئزاز شعب جاهل متعصب لا يلبث أن ينفعل ويتأثر من كل شيء، كانت الحكومة العثمانية اختارت الشق الثاني" (١) .

وإذا صحت هذه الشهادة من ديبلوماسي غربي معاصر لهذه الأحداث والتطورات وكشفت عن السر منها واتباع القصد الأول القصد الثاني بعلمنة الدولة وإعلان أتاترك بعد حين عن أخذه باللائكية والالتزام بها، فإننا ونحن نتحدث الآن عن خصوص التحرير القضائي وتعويض الشريعة بالقوانين الوضعية في البلاد الإسلامية لا بد أن نشير إلى رأي بعض الأساتذة البارزين في هذا التحول القضائي والتطور التشريعي بالبلاد التركية، يقول رئيس معهد القانون الأستاذ أندرسون بالحرف الواحد: "إن اقتباس تركيا للقانون السويسري وتطبيقه في بلادها أشبه ما يكون بارتداء القزم ثوبًا فضفاضًا" (٢) ، في حين يلتمس أحد أعضاء المؤسسة العالية المتابعة للتطورات التشريعية في العالم قسم القانون بجامعة لندن الدكتور هنشف: لقد كان اقتباس الدولة العثمانية للقانون الفرنسي بدافع من الرغبة في رفع معنوياتها وهيبتها في عين الدول الغربية التي نظرت إلى قانون العقوبات والقصاص وقطع اليد والرجم بكثير من الدهشة والاشمئزاز (٣) .

وهذا الخوف من التغيير غير المبرر ومن الطمع غير المشرف اللذين يصاحبهما الاحتقار والسخرية لم يصرف شيء منها في الأول كثيرًا من المثقفين ممن استولى الغزو الفكري على عقولهم، وسيطر على ألبابهم عن طلب العدول عن هذا الانحراف الذي ضاعت به مقومات الأمة وفقدت به رابطًا من روابط وحدتها وأساسًا ذاتيًّا لشخصيتها الإسلامية. وحين نتساءل عن سبب ذلك نجده متمثلًا في الاتهامات والدعاوى والفتنة التي تنتاب مجتمعاتنا في مدارسنا وجامعاتنا وفي الثقافة التي نقبل عليها في حرص غير شاعرين بخطرها ولا متصورين لأبعادها.


(١) مصطفى صبري: ٤ /٣٤٨.
(٢) د. عبد الوهاب أبو سليمان، التشريع الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري. مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية. مكة المكرمة: ١ /١٣٩٣ – ١٣٩٤. العدد الأول: ٥٥.
(٣) القانون التقليدي الإسلامي والقانون الحديث ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>