للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استهداف الحكم الإسلامي والتنكر للتراث الفقهي:

ومن التهجمات الغربية التي لا تصدر عن واعٍ بحقائق الدين ينتسب للإسلام تلك التي تستهدف الحكم الإسلامي في مجاليه القضائي والسياسي. فلقد حرصوا كل الحرص على تركيز دعوى فصل الزمني عن الروحي والدين عن الدولة لدى المسلمين. وهذا يناقض قطعًا القاعدة الأساسية عندنا وهي أن الأحكام الشرعية الإسلامية تقوم على المعنى التعبدي الروحي وعلى المعنى القانوني النافع للإنسانية. وهذا ما يشير إليه الشاطبي بقوله في الموافقات: إن كل حكم شرعي لا يخلو عن حق الله وهو من جهة التعبد ... كما لا يخلو عن حق العبد لأن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد. فالحقان متلازمان (١) . ولإبطال هذا المعنى وإلغاء هذا التصور يقول أحد المضللين متأثرًا بواقع الغرب: " الاتجاه الحديث يتمثل ببعد روحاني ديني يخص وعي الإنسان وعلاقة هذا الوعي بالله من جهة، ثم بعد الحياة السياسية والاجتماعية الذي يحكم علاقات الناس بعضهم بالبعض الآخر في المجتمع من جهة أخرى ... وهكذا لا يمكن أن نحشر الدين في كل شيء في الأكل والشرب والنوم والقيام والقعود وتنظيم العلاقات الاقتصادية والروابط الاجتماعية والخطة الخمسية والسياسة الخارجية للدول ... إلخ هذا غير ممكن ...". ويمضي بعد ذلك قائلًا: "إنه من الضروري إعادة التفكير الجذري في الإسلام لكي يكون هناك قضاء ديني مدني واجتماعي يتساوى فيه البشر طبقًا للقوانين المدنية الحديثة. هذا القضاء الاجتماعي المدني غير موجود الآن، وينبغي أن نناضل من أجله لكي يوجد في المستقبل، وهذا لا يعني القضاء على الدين أو محاربته كما يدعي بعضهم، وإنما على العكس يعني احترام الدين والحفاظ على هيبته الروحية وعدم تلويثه بكل شيء" (٢) .

وهذه المواقف ليس غريبًا ولا عجبًا حصولها ممن يخلط في تصوره بين أصول الدين الذي هو أصل بناء العقيدة، وأصول الفقه الذي هو من عمل رجال الاستنباط للأحكام الشرعية من مصادرها المتنوعة. فيحمله الغموض والوهم على إنكار أن تكون الشريعة ذات أصل إلهي ويصف رسالة الشافعي التي أقامت أسس وقواعد القانون الإسلامي على أربعة مبادئ: -القرآن، الحديث، الإجماع، القياس بأنها الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم (٣) ، ولا يحتاج عاقل ولا عالم إلى دفع هذه التهمة، ولكننا من أجل التعريف برسالة الشافعي هذه نذكر بأن الإمام كان قد عرف أئمة المذاهب عن قرب ووقف على ثروة فقهية من أحكام الفروع يشير إلى ما يسلكه أئمة الفقه في المدن المختلفة عند استنباطهم الأحكام. فنظر في الفروع وتعرف على الموازين، وساعده هذا على وضع قواعد الأصول، وقد اتجه بهذه القواعد اتجاهًا علميا ونظريًّا، وجعل الفقه بهذا مبنيا على أصول مقررة منضبطة، وليس مجموعة من الحلول الجزئية لمسائل واقعة أو مفترضة (٤) . وقد نوه الرازي بمنزلة الإمام الشافعي ووضعه لعلم أصول الفقه بقوله: "استنبط الشافعي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.


(١) الشاطبي الموافقات.
(٢) حوار هاشم صالح مع أركون: من أجل مقاربة نقدية للواقع؛ المستقبل العربي: ١٠١- ٧ /١٩٨٧: ٩.
(٣) أركون. تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص٢٩٧.
(٤) محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص٦٥٥. أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: ٢/ ٢٧٢ – ٢٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>