للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثل هذا الصوت الذي دوى معلنًا حرصه على التمسك بالفقه بعد التفريط في قسم كبير منه تحت تأثير النظم والضغوط الفكرية والاجتماعية والاقتصادية في هذا العصر لم يمر بدون رد أو معارضة من العلمانيين بل أثار سخطهم ونقمتهم على الفقهاء وعلى الدولة التي من وراء هذا الاتجاه الديني العلني تحميه وتنصره بتمسكها بالشريعة والتزامها بتطبيقها وراح أحدهم يقول: بالرغم من كل هذه الاعتبارات والمراجعات النقدية فإننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود قوة هائلة للظاهرة القرآنية، استمرت هذه القوة في الوجود بفضل بعض الشخصيات الدينية الكبرى والشخصيات المثقفة، وبفضل قوة الدولة أيضًا التي قامت بعملها حسب الظروف والمنعطفات التاريخية ... نعم هناك قوة ما تعبر التاريخ والقرون، إنها هنا موجودة، موجودة في القرآن كانت قد اتخذت لها شكلًا في القرن السابع الميلادي وفي اللغة العربية. كيف أمكن لهذه القوة أن تنتج هذه الظاهرة المدهشة التي انفجرت هنا وليس في مكان آخر: هنا في الجزيرة العربية وباللغة العربية (١) .

إن الخطة التي يرسمها هذا الفكر التجديدي والتي تستهدف القرآن والتفسير والحديث والشريعة واللغة والدولة الإسلامية لتضع صورة واضحة لمقاصدها وتعلن في غير وجل أو تردد اتجاهها الهدام متسترة بالمنهجية الجديدة للبحث التي تدعو لها في مجال الإسلاميات التطبيقية.

العلمنة أخطر أساليب الهجوم لمنع تطبيق الشريعة:

إن مجموعة التهجمات والتهم التي قدمنا أمثلة منها، وألوان التحديات التي تظهر في الساحة بقصد الإجهاز على الدين كعقيدة وشريعة ودولة لهي الجانب التطبيقى والعملي للتحرك العلماني في عصرنا الحاضر الذي تشهد له مقالات فلول من المتحررين من الدين في المشرق والمغرب في البلاد العربية والإسلامية. وإنهم ليزعمون أن ما يقومون به في هذه السبيل ليس صادرًا عنهم إلا بقصد تطهير المجتمع من رواسب الماضي المتخلف بشتى الطرق وإنهم يدعون المسلمين عامة إلى منهج فكري راق يخرج بهم من الظلمات وينير لهم المسالك لتحقيق التقدم بل للمنافسة في مجالاته وكسب السبق في الميادين الحضارية الجديدة التي صرفوا عنها طويلًا بسبب الأوهام والتقاليد. ومن الطبيعي أمام هذه الظاهرة المتفشية في أطراف العالم العربي والإسلامي والتي تنطلق بها الممارسات من جهة (تركيا، لبنان) والكتب والمقالات من جهة أخرى متحدثة عن اللائكية واللادينية والعقلانية والعلمانية والعلموية، أن نقف متسائلين عنها متعرفين عليها مقومين أعمالها ونتائج الدعوة إليها، فاللائكية كما صرحوا بذلك مأخوذة من لايكوس اليونانية والتي كان يراد بها الشعب ككل بمنأى ومنجى من رجال الدين، أو من كلمة لايكوس التي كانت في القرن الثالث عشر تطلق على الحياة المدنية أو النظامية أي على الشعب أن يعيش حياته الخاصة بكل معطياتها من غير تدخل رجال الدين في هذه الحياة قصد ضبطها وتوجيهها بطريقة ما. ومن المعلوم أن الشعب الوسط الإغريقي أو اللاتيني في القرون الوسطى كانت تنتشر فيه الأمية، وكان يتكون في جملته من الزراع وأوساط الحرفيين والعاديين من الناس في المدن، وإن رجال الدين (كلاركس) الذين كانوا أحسن حظًّا لمعرفتهم القراءة والكتابة كانوا يستخدمون الشعب الجاهل الساذج ويخضعونه لسلطتهم السياسية والاقتصادية والدينية. فكان هناك تقابل بين العنصرين الجهل والعلم، والخضوع والحكم، والحرية والدين.


(١) تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص٢٩٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>