للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرأي المختار:

بعد هذا العرض لرأي الفريقين في مسألة البيع بالتقسيط ومناقشة أدلة القائلين بعدم صحة هذا البيع، يترجح لنا رأي الجمهور القائلين بجوازه لقوة أدلتهم من جهة ولوجاهة رأيهم من جهة أخرى، إذ المصلحة تقضي بالأخذ برأيهم، فمن المعروف أن كثيرًا من الناس يتعذر عليه شراء بعض السلع لا سيما ذات الأسعار العالية إلا عن هذا الطريق، فلو أخذنا برأي القائلين بالمنع، لألحقنا الضرر بفئة كبيرة من المجتمع وهم أصحاب الدخل المحدود، وربما تكون هي الفئة الغالبة فيه، فمن الأولى أن نجيز مثل هذا التعامل دفعًا للحرج عنهم ولتذليل سبل العيش أمامهم. والله أعلم.

تحديد الأجل شرط لجواز البيع بالتقسيط:

إن القائلين بجواز البيع بالتقسيط من الفقهاء – رحمهم الله تعالى – اشترطوا لجوازه أن يكون دفع القسط محدد الوقت ومعلومًا عند المتعاقدين، لأن جهالة الوقت تفضي إلى المنازعة، فيفسد البيع. قال الكاساني: اشترط في البيع المؤجل الثمن، أن يكون الأجل فيه معلومًا، لأن جهالته تفسد البيع، سواء كانت الجهالة فاحشة كهبوب الريح ومطر السماء مثلًا، أو متقاربة كالحصاد والدياس وقدوم الحاجّ. وذكر، أن العقد لو تم بثمن دين إلى أجل مجهول جهالة متقاربة، ثم أبطل المشتري الأجل قبل محله وقبل أن يفسخ العقد بينهما لأجل الفساد جاز العقد عند أبي حنيفة والصاحبين، وعند زفر لا يجوز.

ولو مضى العاقدان في العقد ولم يبطل المشتري الأجل حتى حل وأخذ الناس في الحصاد ثم أبطله، لا يجوز العقد باتفاق أئمة المذهب.

ولو أن الجهالة في الأجل كانت فاحشة فأبطل المشتري الأجل قبل الافتراق من المجلس ونقد الثمن، جاز البيع عند الإمام وصاحبيه، وعند زفر لا يجوز، ولو افترق المتعاقدان قبل إبطال الأجل، لا يجوز باتفاق فقهاء المذهب (١)

وبفساد العقد عند جهالة موعد تسديد الثمن قال المالكية أيضًا، فقد عد الدردير من جملة البيوع الفاسدة ما لو اشترى شيئًا بنقد كذا وأجل ثمنه لحين ولادة الجنين الذي في بطن ناقته (٢) . وهذه وجهة نظر الشافعية أيضًا (٣) . وبه قال الحنابلة، ذكر ذلك ابن قدامة عند كلامه عن شرط الخيار إلى مدة مجهولة كقدوم زيد أو هبوب ريح ونحو ذلك (٤) وتأجيل دفع الثمن لمثل ما ذكرنا يفسد العقد للجهالة أيضًا.

وحكى صاحب الروض النضير عن الزيدية مثل هذا الرأي، حيث نقل عن زيد بن على عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا يجوز البيع إلى أجل لا يعرف " وقال في موضع آخر: لا يجوز البيع إلى الحصاد ولا إلى الدياس للعلة نفسها (٥) . وإلى هذا ذهب الإمامية (٦) والإباضية (٧) . والظاهرية.

فعلى هذا يكون الاتفاق قد حصل بين القائلين بجواز البيع بالتقسيط بوجوب تحديد الأجل بوقت يتفق عليه الطرفان، وأن لا يكون الأجل مجهولًا كهبوب الريح ونزول المطر وما أشبه ذلك.


(١) البدائع: ٧/٣٠٩٢
(٢) انظر الشرح الكبير: ٣/٥٧
(٣) انظر روضة الطالبين: ٣/٣٩٦
(٤) انظر المغني: ٣/٥٠١
(٥) انظر: ٣/٥١٩
(٦) الديلمي في المراسم: ص ١٧٤
(٧) انظر شرح النيل: ٩/٤٥

<<  <  ج: ص:  >  >>