للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأيضًا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله، وبالغت في تحريمه، وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله، أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة؟ ولولا أن عند أم المؤمنين رضي الله عنها علمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العينة لمات أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها، لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة، واستحلال الربا ردة، ولكن عذر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرم، كما عذر ابن عباس بإباحته بيع الدرهم بالدرهمين، وإن لم يكن قصدها هذا، بل قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد ويصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئًا، ولو كان هذا اجتهادًا منها لم تمنع زيدًا منه، ولم تحكم ببطلان جهاده، ولم تدعه إلى التوبة، فإن الاجتهاد لا يحرم الاجتهاد، ولا يحكم ببطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره، والصحابة – ولا سيما أم المؤمنين – أعلم بالله ورسوله وأفقه في دينه من ذلك.

وأيضًا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس أفتوا بتحريم مسألة العينة، وغلظوا فيها هذا التغليظ في أوقات ووقائع مختلفة، فلم يجئ عن واحد من الصحابة ولا التابعين الرخصة في ذلك، فيكون إجماعًا.

فإن قيل: فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومن ذكرتم، فغاية الأمر أنها مسألة ذات قولين للصحابة، وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد.

قيل: لم يقل زيد قط إن هذا حلال، ولا أفتى بها يومًا ما، ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله، إذ لعله فعله ناسيًا أو ذاهلًا أو غير متأمل ولا ناظر أو متأولًا أو ذنبًا يستغفر الله منه ويتوب أو يصر عليه وله حسنات تقاومه، فلا يؤثر شيئًا، قال بعض السلف: العلم علم الرواية، يعني أن يقول: رأيت فلانًا يفعل كذا وكذا، إذ لعله قد فعله ساهيًا، وقال أياس بن معاوية: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك، ولم يذكر عن زيد أنه أقام على هذه المسألة بعد إنكار عائشة، وكثيرًا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نبه انتبه، وإذا كان الفعل محتملًا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يقدم على الحكم، ولم يجز أن يقال: مذهب زيد بن أرقم جواز العينة، لا سيما وأم ولده قد دخلت على عائشة تستفتيها فأفتتها بأخذ رأس مالها، وهذا كله يدل على أنها لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه، وأنه مما أباحه الله ورسوله.

وأيضًا فبيع العينة إنما يقع غالبًا من مضطر إليها، وإلا فالمستغني عنها لا يشغل ذمته بألف وخمسمائة في مقابلة ألف بلا ضرورة وحاجة تدعوا إلى ذلك وقد روى أبو داود من حديث علي: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك)) .

<<  <  ج: ص:  >  >>