وأما مخالفته للمنقول فلأنه مخالف لما تقدم عن كريب وذلك لأن المتبادر من قول كريب لابن عباس: نعم رأيته ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. وقول ابن عباس: لكنا رأيناه.. إلى آخره. وقول كريب بعد ذلك أولا تكتفي برؤية معاوية؟ وقول ابن عباس في جوابه لا، أي لا نكتفي برؤية معاوية. أن قوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع إلى عدم الاكتفاء برؤية معاوية ورؤية كريب والناس وصومهم وصوم معاوية، وهذا ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم. ولاشك أن مورد هذا النص في الشام والحجاز وقد وجد بينهما مسافة القصر واختلاف الإقليم واختلاف المطالع واحتمال عدم الرؤية فاستند كل طائفة إلى واحد منها وأيد به قوله كذا قال الإمام الأسنوي. لكن احتمال عدم الرؤية بعد أن قال ابن عباس لكريب: أنت رأيته؟ فقال: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، ومعاوية كان الخليفة بعيد جدًا لا يلتفت إليه. فلم يبق إلا احتمال مسافة القصر واختلاف الإقليم واختلاف المطالع. فإذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر ولا لاختلاف الإقليم وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع فإنه ليس المراد باختلاف الناس في الرؤية أن هذا يرى وهذا لا يرى بل المراد أن رؤية هذا الهلال بعد الغروب لا تعتبر رؤية للآخر لأنه غروب ولا هلال في بلدة وهذا إنما يكون باختلاف المطالع فليكن عليه المعول.
قال الخضري الكبير الدمياطي في شرح اللمعة آخر الفصل العاشر في الكلام على رؤية الهلال:"وعلم أن اختلاف الرؤية في البلاد لا يكون إلا باختلاف المطالع البلدية، واختلاف المطالع البلدية لا يكون إلا باختلاف العرض ثم قال: وأما اختلاف الطول فلا يظهر به كبير فرق." آهـ.
وعرض كل بلدة هو بعدها عن خط الاستواء كما نصّوا في علم الميقات. وأما قول السبكي في العلم المنشور بعد ذكر تلك الاحتمالات الثلاثة فلا إشكال على شئ من الأقوال المتقدمة إلا على قول من يقول إذا رؤى في بلد يلزم سائر البلاد فيمكن أن يجاب عنه بأنه قد يكون في المدينة صحو ليلة الثلاثين. وقد اختلف الفقهاء فيما إذا ثبت بشاهدين وصمنا ثلاثين ولم نر الهلال هل نفطر أو نصوم واحدًا وثلاثين لأن عدم رؤيته مع الصحو يقين وقول الشاهد ظن فلا يترك اليقين بالظن فلعل ابن عباس كان يرى هذا المذهب وهذا هو الوجه الثانى مما يحتمله كلام ابن عباس ويحتمل أن يكون ابن عباس أقام كريبا مقام شاهد واحد على هلال شوال وهلال شوال لا يثبت إلا بشاهدين عند جمهور العلماء فذلك رده لعدم شاهد آخر معه وهذا هو الوجه الثالث مما يحتمله كلام ابن عباس وقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحتمل أنه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم:((إذا رأيتموه فصوموا)) الحديث.
ويحتمل أن يكون عنده حديث آخر ونص خاص في مثل هذه الواقعة والحاصل أنه لا معارضة فيه لما تقدم آهـ.