للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذان الحديثان وإن كان في كل منهما مقال إلاَّ أن القياس الصحيح، وقول ابن عباس يقويان الأخذ بهما، ولا يصح تخصيصهما بمفهوم الحديث الخاص، لأن الطعام، كما يقول ابن القيم، وإن كان مشتقًا، فاللقبية أغلب عليه حيث لم يرد معنى يقتضي اختصاص النهي به دون سواه، كما لا يصح تقديم حديث النهي عن بيع الطعام على هذين الحديثين، لأنه لا تعارض بينهما، إذ لا مانع من ذكر الشيء بحكم، وذكر بعضه بذلك الحكم، فالعمل ممكن بكل هذه الأحاديث فوجب الأخذ بها كلها.

لهذا فإني أرى أن ذكر الطعام لم يقصد به التخصيص، وإنما خرج مخرج الغالب، لأنه أكثر ما يتعامل فيه الناس، فالنهي إذن يتناول الطعام وغيره، منقولًا كان أو عقارًا.

هل النهي عن البيع قبل القبض خاص فيما ملك بالشراء؟

كل الأحاديث تدل على أن النهي عن البيع قبل القبض هو فيما ملك بالشراء خاصة، ما عدا حديث ابن عباس فإنه لم يصرح فيه بذلك، ولكن تعليل ابن عباس للنهي يشير إشارة واضحة إلى أنه فيما ملك بالشراء، فإن قوله: (ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ) يعني أن الشخص إذا دفع مائة درهم في طعام ثم باعه قبل أن يقبضه بمائة وعشرين درهمًا فكأنما باع مائة درهم بمائة وعشرين، وهذا واضح في بيع ما اشترى قبل قبضه، ولهذا فإنى أرى حمل حديث ابن عباس على سائر الأحاديث، فيكون المنهي عنه بالنص هو البيع قبل القبض فيما ملك بعقد البيع، وأما ما ملك بالعقود الأخرى أو ما ملك بغير عقد كالإرث فإن النص لا يتناوله، ولكن القياس يقضي بإلحاق ما تتحقق فيه العلة بالبيع، وإذا نظرنا إلى علة المنع، وهى الغرر أو الربا أو هما معًا، نجد أن العلتين تتحققان معًا فيما ملك بعقد البيع، وأن علة الربا مقصورة على البيع لا تتعداه لغيره من العقود، أما علة الغرر، فإنها تتحقق في كل أسباب الملك حتى الإرث، لأن المال الموروث إذا بيع قبل قبضه قد يهلك قبل القبض، فيعجز البائع عن التسليم، ولكن علة الغرر هذه أقوى فيما ملك بالبيع منها في غيره، لأن فيه غرر انفساخ العقد بهلاك المحل، كما يقول الحنفية، وغرر انفساخه بجحود البائع الأول واحتياله إذا رأى البائع الثاني ربح فيه ربحًا كثيرًا كما يقول ابن تيميه (١) ، ولهذا فإني أرى الوقوف عند النص فلا نمنع البيع قبل القبض إلاَّ فيما ملك بالشراء وحده، وذلك لضعف علة المنع فيما ملك بأسباب التملك الأخرى.

وننتقل بعد هذا إلى بيان ما قاله الفقهاء في هذا الموضوع:


(١) انظر الكلام عن علة منع بيع الشيء المملوك قبل قبضه: ص ١٨

<<  <  ج: ص:  >  >>