للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي جميع الأحوال لا يشترط أن يتسلم المشتري بالفعل المعقود عليه حتى في الطعام، حيث نرى أن البائع إذا كالَهُ له، أو وزنه له، أو حوله إليه، أو أودعه في سيارته، أو سفينته فإن القبض قد تم، وأما في غير الطعام فمجرد التخلية يكفي، وذلك لأننا لو اشترطنا – حتى في الطعام – التسلم الفعلي من المشتري فإنه قد يتعسف في استعمال حقه فلا يتسلمه، وقد أبرز الكاساني هذا المعنى بصورة رائعة فقال: "فأما الإِقباض فليس في وسعه – أي البائع–، لأن القبض بالبراجم (١) فعل اختياري للقابض، فلو تعلق وجوب التسليم به لتعذر عليه الوفاء بالواجب، وهذا لا يجوز" (٢) .

ثم إن القبض لغة قد جاء بمعنى التمكين والتمكن دون التسلم الفعلي، ولا نجد دليلًا في الشرع على تقييده غير الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أو استيفائه، أو تحويله، وهذه الأحاديث – في الواقع – ليست شرحًا للقبض، ولا تقييدًا له، وإنما هي في عدم جواز البيع قبل القبض، لكنه مع ذلك يدل على نوع خصوصية الطعام، حيث يقول القرافي في الفرق بين الطعام وغيره في هذه المسألة: "إن الطعام أشرف من غيره لكونه سبب قيام البنية، وعماد الحياة فشدد الشرع على عادته في تكثير الشروط فيما عظم شرفه كاشتراط الولي والصداق في عقد النكاح دون عقد البيع " (٣) .

وعلى ضوء ذلك تبقى القاعدة العامة هي أن القبض والتسليم هو التخلية والتمكن من التسلم وليس التسلم الفعلي باليد يقول الكاساني: ولنا أن التسليم في اللغة عبارة عن جعله سالمًا خالصًا، يقال: سلم فلان لفلان أي خلص له، وقال الله تعالى: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [سورة الزمر: الآية ٢٢٩] . أي سالمًا خالصًا لا يشركه فيه أحد، فتسليم المبيع إلى المشتري، هو جعل المبيع سالمًا للمشتري، أي خالصًا بحيث لا ينازعه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية، فكانت التخلية تسليمًا من البائع، والتخلي قبضًا من المشتري وكذا هذا في تسليم الثمن إلى البائع، لأن التسليم واجب، ومن عليه الواجب لا بد وأن يكون له سبيل الخروج عن عهدة ما وجب عليه، والذي في وسعه هو التخلية، ورفع الموانع" (٤) .

فعلى ضوء ذلك إن جميع الأحكام المترتبة على القبض تترتب على التخلية والتمكن من القبض، لكنه لا يجوز بيع الطعام قبل استيفائه وتحويله أو كيله ووزنه، وبهذا يتم الجمع والتوافق بين جميع الأدلة، ويكون للعقد أيضًا أثره دون أن يلغى أي دليل، والقاعدة الأصولية تقضي بأن الجمع بين الأدلة أولى من إلغاء أحدها.


(١) البراجم جمع برجمة، وهي رءوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض الشخص كفه نشزت وارتفعت، والسلامي هي عظام الأصابع وقال قطرب: هي عروق ظاهر الكف والقدم. يراجع: المصباح المنير ١/٤٨، ٣٠٧.
(٢) بدائع الصنائع: ٧/٣٢٤٨.
(٣) الفروق، ط. دار المعرفة، ببيروت ٣/٢٨١.
(٤) بدائع الصنائع: ٧/٣٢٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>