وهذا الرأي متمشٍّ مع الأصل في القبول: وهو أن يتصل بالإيجاب مباشرة وفورًا لينعقد العقد.
وفسر غير الرملي من الشافعية اتصال القبول بالإيجاب بأنه السائد عرفًا بين الناس، فلا يضر الفصل اليسير، ويضر الفصل الطويل: وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول: وحينئذ يقترب مذهب الشافعية من مذهب غيرهم وهم الجمهور.
والمراد بالشرط الثاني: ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه عن العقد: أن يكون الكلام في موضوع العقد، وألا يتخلله فصل بكلام أجنبي يعد قرينة على الإعراض عن العقد.
فإن ترك الموجب مجلس العقد قبل قبول الآخر، أو ترك الطرف الآخر المجلس بعد صدور الإيجاب، أو انشغل الطرفان في موضوع آخر لا صلة له بالعقد، بطل الإيجاب، ولو قبل الآخر لا يعتبر قبوله متممًا للعقد، لأن الإيجاب ذهب ولم يبق له وجود، إذا لم يتعانق مع القبول. وسبب ذهابه أنه كلام اعتباري لا بقاء له إذا لم يتصل بالقبول، ويجعل باقيًا مدة المجلس من باب التيسير على الطرفين، ودفع العسر عنهما ليمكن تلاقي القبول به، وانعقاد العقد.
تغير المجلس:
إن العرف الشائع بين الناس هو المحكَّم في بيان اتحاد المجلس أو تغيره، فإذا صدر القبول في حال اتحاد المجلس، نشأ العقد، وإذا صدر القبول بعد تغير المجلس، لم يعتبر ولم ينشأ به العقد.
وضابط ذلك أن القبول يكون معتبرًا ما دام لم يتخلل بينه وبين الإيجاب ما يعد إعراضًا عن العقد من الطرفين، وما دام المجلس قائمًا.
وتحقيق هذا المبدأ عند الحنفية مثلًا: أنه لو أوجب أحد الطرفين البيع، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد العقد، لأن القيام دليل الإعراض والرجوع عن العقد (١) ، ثم إن الشافعية القائلين بفورية القبول قالوا: يعتبر العرف في تفرق العاقدين عن المجلس، فما يعده الناس تفرقًا يلزم به العقد، وما لا فلا، لأن ما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع يُرْجَع فيه إلى العرف، ومثال التفرق: الخروج من البيت (الغرفة) إلى صحن الدار وبالعكس، والخروج من الدار الصغيرة إلى الشارع، وصعود السطح، ومشي خطوات ثلاث مع بقاء الآخر واقفًا، أما لو مشى الطرفان، فيظل المجلس قائمًا ما دام الكلام في موضوع العقد، ولو طال الزمن.
(١) البدائع: ٥/١٣٧، فتح القدير مع العناية: ٥/٧٨، ٨٠.