ونحن هنا نشير إلى أن عمل أهل المدينة متى ثبت واتُّفِق عليه قُدِّم على خبر الآحاد عند المالكية، وهو ما اعتمده مالك رضي الله عنه عند قوله:
(وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه) .
والقاضي عياض في [المدارك: ١/٧٢] يُخَرِّجُ المسألة من زاوية أخرى عند تحدُّثِه على عمل أهل المدينة فهو يذكر حديث ((المتبايعان بالخيار)) الذي رواه مالك وأهل المدينة بأصح أسانيدهم. وأما قول مالك عَقِبَهُ وليس لهما عندنا حد محدود ولا أمر معمول به. هو مسلط على فقرة: إلا بيع الخيار، أي أن بيع الخيار ليس له حد عندهم وفسر التفرق بالأقوال لا بالأبدان والخيار ما داما متراوضين ومتساومين.
ويقول خليل في مختصره: (إنما الخيار بشرط) .
فنبه بالحصر على أن خيار التروي لا يثبت بدوام اجتماع المتبايعين.
وعلق شراح خليل على ذلك بقولهم: وهذا قول الفقهاء السبعة إلا ابن المسيب وهو رأي مالك وأبي حنيفة.
والفقهاء السبعة جمع بعضهم أسماءهم فقال:
ألا كل من لا يقتدي بأيمة
فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم: عبيد الله عروة قاسم
سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وهم جميعًا من التابعين رضي الله عنهم.
وما ذهب إليه المذهبان الحنفي والمالكي واقتبسته عنهما القوانين الوضعية حينئذٍ هو أن العقد إذا تم وانبرم أصبح واجب النفاذ سواء بقي المجلس وطال أمده أو انصرم سواء اجتمعا بالأبدان اجتماعًا حقيقيًّا أو اجتماعيًّا حكميًّا بواسطة آلة اتصال كالهاتف.
لكن لا يفهم من هذا منع التراخي في قبول العرض ولا يمكن أن نتصور تصرفًا ماليًّا له أهمية كبرى تشترط فيه المسارعة بالقبول والمواثبة في الإجابة دون إعمال الرأي أو تدبير شأن وتفكير بموضوعية تتطلبها المعاملات التجارية عادةً وعرفًا، فالمتعاقدان قد يكون أحدهما درس الموضوع دراسة معمقة مركزة ثم جاء يعرض إيجابه ولذا فإن الطرف المقابل من حقه إعمال الرأي والتفكير والتدبير ثم إسناده القبول وتغطيه الإيجاب حتى يتكوَّن العقد.
وهذا ما يقرره غالب الفقهاء في مختلف المذاهب وإليه يجنح شراح القانون.
يقول الكاساني في [بدائعه: ٥/١٣٧] .
(...... وأما الذي يرجع إلى مكان العقد فهو اتحاد المجلس بأن كان الإيجاب والقبول في مجلس واحد فإن اختلف المجلس لا ينعقد لأن القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر في المجلس ... إلا أن اعتبار ذلك يؤدي إلى انسداد باب البيع فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكمًا وجعل المجلس جامعًا للشطرين مع تفرقهما للضرورة وحق الضرورة يصير مقضيا عند اتحاد المجلس فإذا اختلف لا يتوقف. وعند الشافعي رحمه الله الفور مع ذلك شرط لا ينفذ الركن بدونه. ولنا في ترك اعتبار الفور ضرورة لأن القابل يحتاج إلى التأمل ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل) .