( ... وعند الشافعي رحمه الله خيار القبول لا يمتد إلى آخر المجلس بل هو على الفور ولنا – أي للحنفية – أنه يحتاج إلى التروّي والفكر والتأمل فجعل ساعات المجلس كساعة واحدة إذ هو جامع للمتفرقات وبه يرتفع الحرج، وفيما قاله الشافعي حرج بيِّن وهو منتفٍ بالنص، قال الله سبحانه وتعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[آية ١٨٥ من سورة البقرة] .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يسروا ولا تعسروا ... )) . وفي نفس السياق يقول الحطاب في شرحه لمختصر خليل [٤/٢٤٠] :
( ... والذي تحصل عندي من كلام أهل المذهب أنه إذا أجابه في المجلس بما يقتضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزمه البيع اتفاقًا، وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقًا وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عمَّا كانا فيه حتى لا يكون كلامه جوابًا لكلام السابق عرفًا لم ينعقد البيع كما يفهم من كلام ابن عرفه ومن كلام ابن رشد: إن أجابه صاحبه في المجلس ولا يشترط أن لا يحصل بين الإيجاب والقبول فصل بكلام أجنبي عن العقد ولو كان يسيرًا كما يقوله الشافعية.
ولا يقال كلام ابن رشد وابن العربي في انعقاد البيع وعدم انعقاده وكلام ابن رشد وابن عرفه إنما يقتضي عدم اللزوم ولا يلزم من نفي اللزوم نفي الانعقاد لأنَّا نقول: لا موجب هنا لعدم اللزوم في حق من صدر منه ما يدل على الرضا إلا كونه لم ينعقد عليه البيع لعدم إجابة صاحبه بما يدل في وقت يكون كلامه جوابًا لكلامه ... ) .
وهكذا ننهي الحديث عن الفرع الأول وهو التعاقد بين حاضرين حقيقةً أو حكمًا كأن يكون التخاطب بالهاتف. وقد رأينا أن هذا جائز وصحيح بشروطه وقيام أركانه اعتمادًا على أحكام الفقه الإسلامي بصرف النظر عن الاختلاف الجزئي بين المذاهب التي تتفق مبدئيًّا على الصحة والقبول لا نبرام العقد بين غائبين عن بعضهما حاضرين في مجلس واحد بحكم وحدة الزمن عند المساومة والمناقشة في شأن إبرام العقد وإنهاء الصفقة.
فما دام المتساومان يتناقشان في شأن إبرام العقد بخط هاتفي ذي سلك أو دون سلك مشاهد الصورة أو غير مشاهد لها فهما في مجلس واحد تطبق عليه الأحكام السابق بسطها وشرحها.
هذا وإننا لا نتعرض إطلاقًا هنا إلى وسائل الإثبات وإنما نتحدث على المبدأ العام باعتبار اعتراف كل واحد بما صدر عنه.
وأما عند النزاع والإنكار فإن طرق الإثبات معروفة يفزع إليها الأطراف لإقرار العقد وإثباته في نطاق ما حدده التشريع وليس ذلك من مشمولات بحثنا هذا.