الفرع الثاني
التعاقد بين غائبين
يحدث أن يتم التعاقد بين شخصين غائبين عن بعضهما جسديًّا لا يجمعهما مجلس واحد بل يكون وجودهما في بلدين بعيدين عن بعضهما ويقتربان بطريقة من طرق الاتصالات العصرية والقديمة كالرسالة أو البرق، وهي تساعد على تحقيق الصفقات وتقريب المسافات في المناقشات والمساومات والمفاهمات.
والقوانين الوضعية يشغلها من ناحية هذه العقود زمان العقد ومكانه.
متى يلتقي القبول بالإيجاب؟ ومتى يتكون العقد؟ وأية فرصة تمنح للقابل لإصدار القبول بعد اتصاله بالإيجاب هل على الفور أم على التراخي احترامًا لمجلس العقد وأحكامه؟
وإذا عدل الموجب عن إيجابه بعد أن أرسله إلى صاحبه وقبل أن يتصل هذا بالإيجاب سارع الآخر وأبرق له بوسيلة سريعة من هذه الوسائل يعلن رجوعه وإلغاء إيجابه ويصل الرجوع والإلغاء قبل وصول الإيجاب فهل هناك محل للقبول أم لا؟!
جاء القانون المدني التونسي في مادته (٢٨) قائلًا:
(يتم العقد بالمراسلة في وقت ومكان إجابة الطرف الآخر بالقبول. والتعاقد بواسطة رسول أو غيره يتم في الوقت والجهة التي تحصل فيها الإجابة بالقبول من الطرف الآخر للرسول) .
أي إن مكان القبول هو مكان العقد. وهذا محل خلاف الآن بين القوانين.
وقد نصت لائحة المجلة المدنية التونسية الموضوعة سنة ١٣١٥هـ-١٨٩٨م على أن هذه المادة مأخوذة من المادة (٣٤٦) من مرشد الحيران ومن الفتاوى الهندية ٣/٩.
وجاءت المادة (٣٠) من المدونة المذكورة تقول:
(يسوغ الرجوع في الإيجاب ما دام العقد لم يتم بالقبول) .
وتنص لائحة هذه المدونة على أن هذه المادة مأخوذة من مرشد الحيران ومن مجلة الأحكام العدلية والتاودي والتسولي.
أما القانون المصري الجديد فهو يذهب مذهب العلم بالقبول فتقول مادته (٩٧) :
(يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ... ) .
وإلى هذا يذهب القانون العراقي في مادته (٨٧) والليبي في مادته (٩٧) ، وكذلك الكويتي في مادته (٤٩) ، ومثله القانون التجاري الكويتي في مادته (١١٢) .
وهذا الموضوع محل اختلاف بين القوانين الوضعية كما رأينا. ومبدأ العلم بالقبول لم يأخذ به القانون المدني التونسي وكذلك القانون السوري. مخالفين غالب القوانين الأخرى باعتبار أن التعبير عن الإرادة يتكامل وجوده بمجرد صدوره من صاحبه وتنتج عنه آثاره فإذا صدر القبول مطابقًا لما جاء به الإيجاب انبرم العقد وكانت له آثاره بصرف النظر عن علم من وجه له القبول.