وحكى القرطبي في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} خلافًا في ذلك. وظاهر كلامه أنه في المذهب رواية عن مالك ولكن الجاري على المذهب هو ما ذكره ابن رشد.
وخالف مالكًا في هذا بقية المذاهب الأخرى الحنفية والشافعية والحنبلية، الذين يرون إمكانية الرجوع إذا لم يصدر القبول من الطرف الآخر.
يقول الكاساني في البدائع [٥/١٣٤] :
(.... وأما صفة الإيجاب والقبول فهو أن أحدهما لا يكون لازمًا قبل وجود الآخر. فأحد الشطرين بعد وجوده لا يلزم قبل وجود الشطر الآخر. حتى إذا وجد أحد الشطرين من أحد المتبايعين فللآخر خيار قبول القبول وله أي للمجيب خيار الرجوع قبل قبول صاحبه لما روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
والخيار الثابت لهما قبل التفرق عن بيعهما هو خيار القبول وخيار الرجوع، ولأن أحد الشطرين لو لزم قبل وجود الآخر لكان صاحبه مجبورًا على ذلك الشطر وهذا لا يجوز، والرسول الكريم يقول: ((من أقال نادمًا بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة)) .
ونرى أن القوانين الوضعية المعمول بها في بعض البلاد الإسلامية والتي اعتمد واضعوها في أصولها على الفقه الإسلامي سارت في السبيل الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء ومكَّنت المجيب من الرجوع في إيجابه إذا لم يقل الطرف الآخر كلمته بعد.
يقول الفصل (٣٠) من المدونة المدينة التونسية واللائحة تنص على أنه مأخوذ من الفقه الإسلامي:
(يسوغ الرجوع في الإيجاب ما دام العقد لم يتم بالقبول) .
وهذا عين ما نصت عليه المادة (٣٧) من القانون المدني الكويتي.
وهكذا نرى أن طرق الاتصال الحديثة قد أوجد لها الفقهاء من قديم أحكامًا تنطبق عليها في عصر حدوثها وإنشائها المتأخر.
وما توقعه الفقهاء في تصورهم لبعض القضايا كان يعالج حالات تقع اليوم في عصر السرعة البالغة.
وعل كلٍّ، فإن المدونة المدنية التونسية الموضوعة منذ قرن ونيف والتي اقتبست غالب أحكامها من أحكام الفقه المالكي والفقه الحنفي قد احتاطت لما يحدث من أقضية وما يجد من جديد فجاءت مادتها (٥٧٥) قائلة:
(لا يصح بين المسلمين ما حجر الشرع الإسلامي بيعه) .