للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الاتجاه الوسط فقد استدل بالأدلة السابقة لكنهم قالوا: إن الحاجة ماسة بالنسبة للغائبين دون الحاضرين، فيترخص للغائبين دون غيرهما، فلماذا يلجأ الحاضران إليها وهما قادران على النطق الذي هو الأقوى؟؟!

ويمكن أن يجاب عن هذا بأن النزاع في أن الكتابة هل تصلح للدلالة على ما في النفس أم لا؟ فإذا قلنا: نعم، فأي تقييد في حقها، وتضييق لنطاقها بما بين الغائبين لا يتفق مع هذا الجواب، ولا مع المبدأ السائد في الشريعة الغراء، القاضي بأن أساس العقود هو الرضا، وأما إذا كان جوابنا بالنفي فلا بد أن لا نستثنى الغائبين، لأن التعبير عن الرضى ضروري في إنشاء العقد بحيث لا يتم بدونه، كما أنه لا توجد ضرورة بالنسبة للغائبين إذ يمكنهما التوكيل (١) .

واستدل الموسعون بأن الكتابة وسيلة جيدة عن التعبير عن الإرادة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعملها في خطاباته مع الملوك، فدعاهم إلى الدخول في الإسلام (٢) ، فإذا كانت الكتابة صالحة للتعبير عن نشر الدعوة، فكيف لا تكون صالحة لإنشاء العقد؟؟ قال الكاساني: (إن الكتابة المرسومة جارية مجرى الخطاب، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يبلغ بالخطاب مرة وبالكتاب أخرى ... وبالرسول ثالثًا، وكان التبليغ بالكتاب والرسول كالتبليغ بالخطاب، فدل على أن الكتابة المرسومة بمنزلة الخطاب) (٣) ، بل إن القرآن الكريم قد الكتابة على الشهادة في آية الدين (٤) .

وهذا هو الراجح الذي يدعمه الدليل ويتفق مع قواعد الشريعة وأصولها القاضية برفع الحرج ومبادئها الخاصة بالعقود الدالة على أن الأساس هو التراضي دون النظر إلى التقيد بأية شكلية، بالإضافة إلى أن الشرع علق حل أكل أموال على التراضي، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (٥) ، ومع ذلك لم يفصل في وسائل التعبير عنه، كما أننا لا نجد لها تحديدًا دقيقًا في اللغة فيناط حينئذٍ بالعرف، والعرف جار قديمًا وحديثًا على صلاحية الكتابة للتعبير عن الرضا والإرادة، ولذلك فهي صالحة لإنشاء العقود (٦) .


(١) المصادر السابقة، ويراجع لتفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة: ٢/٩٤٧ ...
(٢) صحيح البخاري – مع الفتح -: ٦/١٠٩، حيث روي بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام.
(٣) بدائع الصنائع: ٤/١٨١٣.
(٤) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [سورة البقرة: الآية ٢٨٢] ، ويراجع تفسير القرطبي: ٣/٣٧٦.
(٥) سورة النساء: الآية ٢٩
(٦) يراجع مبدأ الرضا في العقود: ٢/٩٤٨ ... والمصادر الفقهية السابقة.

<<  <  ج: ص:  >  >>