للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-١-

حكم التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة في الفقه الإسلامي

(من ناحية الجواز أو عدمه)

في حالة التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة، فإن الخروج عن الشكل العادي للتعاقد (أي التعاقد بين الحاضرين وبطريقة التعبير اللفظي) يكون بسبب أحد هذين الأمرين أو كليهما: (١) وجود مسافة بعيدة بين الطرفين، (٢) تكوين العقد بطريقة أخرى عدا طريق المشافهة. والسؤال الآن هو: هل يوجب هذان الأمران نظرة سلبية إلى التعاقد بين الغائبين وبالتالي إلى التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة حسب قواعد الفقه الإسلامي أم لا؟

وبإلقاء نظرة إلى آيات القرآن الكريم، نجد أن هذا المصدر الأول للفقه الإسلامي فقد جعل (الرسالة) (السفارة) وظيفة هامة حتى بخصوص تبليغ المواضيع ذات الأهمية البالغة، وجاء بمبدأ إمكانية توظيف شخص معين بوظيفة تتحدد حدودها بنطاق تبليغ الخبر إلى المرسل إليه دون أن يكتسب حقوقًا وأن يتحمل التزامات باسم المرسل إزاء المرسل إليه وذلك على خلاف ما يكون في (الوكالة) أو (النيابة) ، وكذلك جاء بمبدأ أن لا يكون الرسول مسئولًا عن نتائج قيامه بأداء هذه الوظيفة كما بين الكتاب الكريم هذا المبدأ في آية: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (١) .

وقد قرَّر القرآن الكريم أيضًا تبليغ المواضيع ذات الأهمية البالغة بطريقة الكتابة وبناء الأحكام على هذا التبليغ كما جاء في قصة سليمان عليه السلام: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} (٢) .

أما موقف السنة من (الرسالة) و (الكتابة) فإنه من المعروف – من السيرة النبوية – أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استخدم هاتين الطريقتين في مواضيع هامة وبني أحكامًا على التبليغ بهما (٣) . كما أننا نلاحظ أن بعض الفقهاء يستندون إلى هذا الدليل بخصوص تجويز التعاقد بين الغائبين، فمثلًا يقول سعدي جلبي: ( ... تمّ البيع بينهما لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبلغ تارة بالكتاب وتارة بالخطاب وكان ذلك سواء في كونه مبلغًا) (٤) . وكذلك يقول الكاساني بصدد ترتب الأحكام على التعبير عن الإرادة بطريقة الكتابة والرسالة: (لأن الكتابة المرسومة جارية مجرى الخطاب. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبلغ بالخطاب مرة، وبالكتاب أخرى وبالرسول ثالثًا وكان التبليغ بالكتاب والرسو كالتبليغ بالخطاب فدلَّ أن الكتابة المرسومة بمنزلة الخطاب ... ) (٥) .


(١) العنكبوت (٢٩) : الآية ١٨؛ ومن البديهي أنه يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن الأنبياء لهم وظائف أخرى إلى جانب وظيفة السفارة / الرسالة.
(٢) النمل (٢٧) : الآيتان ٢٨-٢٩. بما أننا استفدنا من هذا الدليل كفكرة عامة، لا نشعر بالحاجة إلى تناول مسألة (حجية شرائع من قبلنا) .
(٣) والجدير بالذكر هنا هو أن كتابة الدكتور محمد حميد الله المسمى بـ (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) بيروت ١٤٠٥هـ/١٩٨٥م. (الطبعة الخامسة) يشكل مرجعًا هامًا في هذا الموضوع.
(٤) سعدي جلبي، حاشية على الهداية، وعلى شرحه العناية، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي بالأوفست، ٥/٤٦١.
(٥) الكاساني (علاء الدين) ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، بيروت، ١٣٩٤هـ/١٩٧٤م بالأوفست، ٣/١٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>