للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الفقهاء المسلمون الذين بذلوا جهودهم من أجل التوصل إلى نتائج فقهية في ضوء أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ومبادئهما، فلم ينطلقوا من منطلق (الشكلية) في العقود بل من منطلق (الرضائية) فيها، وقالوا بأن العقد ينعقد بأي وسيلة من وسائل التعبير عن الإرادة إذا أمكن التأكد من أن هذه الوسيلة تدل على الرضا (إلا أن بعض الفقهاء والمذاهب وضعوا أحكامًا مقيّدة أو سلبية بخصوص بعض الوسائل مثل الإشارة والكتابة والتعاطي وذلك لعدم اطمئنانهم بها في التثبت من دلالتهم على الإرادة ولاهتمامهم الفائق بهذا التثبت) . وكذلك قال جمهورهم بأن التراضي يمكن أن يتحقق ولو أظهر كل من طرفي العقد رضاه وهما متباعدان وأجازوا التعاقد بين الغائبين (١) .

والخلاصة أن الأحكام التي توصل إليها الفقهاء المسلمون في مبحث انعقاد العقد قد منحت إطارًا واسعًا وشاملًا للموضوع بحيث لا تمس الحاجة – من ناحية جواز إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة – حتى ولو من باب الاستفادة من قاعدة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) (٢) . وبعبارة أخرى فإن هذا الإطار الواسع لم يترك مجالًا لتبديل الاجتهادات السابقة نظرًا للحاجات الزمنية.

كما يدل على ذلك أن لجنة تعديل (المجلة) (مجلة الأحكام العدلية) التي تكونت في أيلول ١٩٢١، لم تتردد في تقرير إضافة المادة التالية إلى هذه المجلة: (يكون الإيجاب والقبول بالتلفون والتلغراف أيضًا) (٣) .

ويلاحظ أن الفقهاء المسلمين المعاصرين أيضًا يتعرضون مباشرة للمسائل التي تنشأ عن التعاقد بين الغائبين دون أن يشعروا بالحاجة إلى الاهتمام بمسائل جواز أو عدم جواز مثل هذا التعاقد.


(١) إن موقف الحنفية والحنابلة الإيجابي من التعاقد بين الغائبين واضح جدًّا، ينظر مثلًا: الكاساني، بدائع الصنائع، ٥/١٣٨؛ المرغيناني (برهان الدين) ، الهداية شرح بداية المبتدي، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي بالأوفست، ٥/٤٦١، البهوتي (منصور بن يونس) ، كشاف القناع عن متن الإقناع، بيروت ١٤٠٢هـ /١٩٨٢م، ٣/١٤٨. ومع أن المؤلفين المالكيين يذكرون أن العقد ينعقد بالكتابة أيضًا فإنهم (حسب مشاهدتنا في عدد كبير من كتبهم) لا يتناولون التعاقد بين الغائبين بصفة خاصة ويذكرون جواز الكتابة أثناء تناولهم للتعاقد بين الحاضرين، ينظر مثلًا: الخرشي (عبد الله) ، شرح مختصر سيدي خليل (مع حاشية العدوي عليه) ، بيروت، ط. دار صادر بالأوفست، ٥/٥٥؛ الدسوقي (محمد عرفة) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، ط. دار الفكر بالأوفست، ٣/٣، ٤. أما الشافعية فإن هناك خلافًا بينهم في هذا الموضوع، وإن رأي الغزالي والرافعي في اتجاه أن التعاقد بين الغائبين يصح كما أن النووي يقول في هذا الرأي (هو الأصح) ، انظر مثلًا: النووي، المجموع، ٩/١٦٧ – ١٦٨، ١٧٧.
(٢) مجلة الأحكام العدلية، المادة: ٣٩.
(٣) جريدة عدلية، كانون أول ١٣٢٥هـ. السنة: ١، العدد: ٢، ص٩٤

<<  <  ج: ص:  >  >>