للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد عرض هذه الآراء ينتقد د. سوار اعتبار الدكتور السنهوري بأن أخذ الفقه الإسلامي بنظرية العلم في التعاقد بين حاضرين هو من الأمور المسلمة (١) ، مشيرًا إلى أن هذا بالتأكيد يتعارض مع صراحة النصوص الفقهية التي ذكرها سابقًا (٢) .

وبالرغم من أن بحث د. سوار يتسم بالدقة والإتقان فإننا لا نعتقد أن كلام السنهوري الآنف الإشارة يتعارض مع ما ورد في الكتب الفقهية تعارضًا تامًّا لأن الرأي الثاني الذي ذكره د. سوار بالنسبة للفقه الحنفي لا يعتبر رأيا احتل مكانًا مرموقًا في الكتب الفقهية المعتبرة وترقى إلى مرتبة نظرية حقوقية بحيث يدافع عنه ويؤيد بأدلة بارزة فيها. وحين يشير د. سوار إلى وجود عدد كبير من الكتب المعتبرة في الفقه الحنفي مما يؤيد هذا الرأي، فإنه يعول على الدليل السلبي أي على عدم تصريح اشتراط هذه الكتب لشرط السماع (٣) . ومن جهة أخرى فإن الرأي القائل باشتراط السماع (العلم) استقر في الكتب المعتبرة للفقه الحنفي بحيث تم تأييده بعبارة (إجماعًا) (٤) في كثير منها (٥) . أما ما ذكره د. سوار بالنسبة للفقه الشافعي، فإن الرأي الوارد في النصوص المذكورة في كتابه وكذلك ما توصل إليه من نتائج معولًا على هذه النصوص يمكن أن يناقش مع بعض الجوانب (٦) (والحري بنا أن نذكر هنا أن د. سوار لم يكن قد بنى النتيجة المبنية للفقه الشافعي على دراسات وتحقيقات تضم عرضًا تاريخيًّا وتهدف إلى إظهار مسيرة تطور الآراء كما فعل ذلك بالنسبة للفقه الحنفي) . أضف إلى ذلك أن تبنى حكم خيار المجلس، يحط من أهمية دراسة هذه المسألة في الفقه الشافعي من ناحية التعاقد بين الحاضرين إلى حد كبير.

وإزاء التوضيحات السابقة يمكن القول بأن الرأي السائد في الفقه الإسلامي هو رجحان نظرية العلم في التعاقد بين الحاضرين يعبر عن هذا الخصوص بعض المؤلفين بصورة مطلقة (مثلًا: محمصاني، النظرية العامة، ٢/٤١) ، وبعضهم بأنه (من الأمور المسلمة) (مثلًا: السنهوري، مصادر الحق، ٢/٥٥) ، وبعضهم بأنه (الرأي السائد في الفقه الإسلامي) (مثلًا: الدريني، التراضي، ص٢٨٧) ، والبعض الآخر بأنه (الرأي السائد في الفقه الحنفي) (مثلًا: سوار، التعبير، ص١١١ وما بعدها) - كما سبق-. مع مراعاة أن العلم يعتبر قد تحقق في الحالات التي يمكن فيها الحكم بأن العلم قد تحقق من خلال النظرة الموضوعية هذه النقطة تحظى بأهمية عملية في التعاقد بين الغائبين- كما سيأتي -. لقد ورد في كتب كثيرة للأحناف وكذلك للشافعية عبارات تشير إلى هذه النقطة مثل عبارة: (فإن سمع أهل المجلس كلام المشتري والبائع يقول لم أسمع ولا وقر في أذنه لم يصدق قضاء) . انظر مثلًا: ابن نجيم، البحر الرائق، ٥/٢٨٨، البجيرمي (سليمان) ، بجيرمي علي الخطيب، بيروت ١٣٩٨هـ/١٩٧٨م بالأوفست، ٣/١٠. .

إذن، يمكن – عمليًا – تطبيق قاعدة إمكانية الرجوع عن القبول إلى غاية وقت انعقاد العقد التي أشرنا إليها تحت عنوان (القبول) ، إذا تم التعويل على نظرية العلم، أي أن المخاطب يمكن له أن يسترجع قبوله قبل سماع القبول من طرف الموجب.

***


(١) انظر السنهوري، مصادر الحق، ٢/٥٥ (وقد ذكر سوار مكان هذا الكلام للسنهوري بأنه ورد في ٤/٥٦. ولعل هناك خطأ مطبعيًّا) .
(٢) سوار، التعبير، ص١١٨ هامش٥.
(٣) انظر: سوار، التعبير، ص١١٥ هامش ٥.
(٤) ليس غائبًا عن ذهننا أن مفهوم (الإجماع) في الكتب الفقهية للأحناف يستخدم –غالبًا – في معنى (اتفاق علماء المذهب) وأن هذا المفهوم في كتبهم لا يعكس في بعض الأحيان الاتفاق التام حتى بين علماء المذهب) . ولكننا أردنا هنا أن نشير إلى مدى اعتمادهم على الرأي المذكور.
(٥) ينظر مثلًا: ابن نجيم، البحر الرائق، ٥/٢٨٨ (ويلاحظ أن هناك عبارة تشترط (الفهم) أيضًا في هذا المرجع: (وشرط في الحاوي القدسي السماع والفهم) . انظر للإحالة على ستة مراجع بهذا الخصوص: سوار، التعبير، ص٦١٠ هامش٤.
(٦) انظر: الدريني، التراضي، ص٣١٣-٣١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>