للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه الطريقة يمكن متابعتها في عقد البيع وأمثاله أيضًا. وليتجلى الفرق بين الجهاز القائم مقام أحد الطرفين وبين وسائل الاتصال يمكن إعطاء المثال الآتي: لنفرض أن بائع بعض المواد الضرورية للمنزل (مثل أنابيب الغاز المستعملة في البيوت) قام بتركيب جهاز التسجيل بهاتفه المخصص لهذا الأمر والمعروف رقمه من قبل الجمهور. وإذا دق جرس الهاتف المسجل فإنه يذيع على مسامع الطرف الآخر عبارات ومعلومات قد سجلها عليه صاحبه من قبل ويمكن أن يظهر للسامع هذه العبارات: (نحن مؤسسة.. نتعهد بإرسال السلع التالية بالكميات والأسعار التالية..) بحيث يتضمن هذا التعهد جميع الشروط اللازم توفرها في الإيجاب. فإذا أجاب الشخص الذي يرفع سماعة الهاتف في الطرف المقابل بالقبول ينعقد العقد. (وإذا تشددنا في التفرقة بين (الإيجاب) و (الدعوة إلى الإيجاب) نقول بأن الكلام المذاع في الجهاز هو الدعوة إلى الإيجاب، وكلام الشخص الذي يرفع السماعة في الطرف المقابل هو الإيجاب، وتنفيذ صاحب الجهاز موجب العقد هو القبول. ومع هذا فإن التعبير عن إرادة الشخص الهاتف المسجل في الجهاز يعتبر إيجابًا وبالتالي يكون أحد شطري العقد. إذن، فإن الجهاز الذي يصلح لتسجيل تعبير الموجب يمكن اعتباره صالحًا لتسجيل تعبير القابل أيضًا، وفي كلتا الحالتين) ، فإن النقطة التي يجب الانتباه إليها هنا هي أن دور التلفون عبارة عن توفير الاتصال بين العاقدين الغائبين، أما الجهاز المسجل فهو يقوم مقام أحد الطرفين.

٣-١-٢- اعتبار الإيجاب ملزمًا أو غير ملزم:

لا نصادف في الفقه الإسلامي بتفرقة بين التعاقد بين الحاضرين والتعاقد بين الغائبين من ناحية إلزامية الإيجاب أو عدم إلزاميته. وعلى هذا فإن الرأي السائد في الفقه الإسلامي هو أن للموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل صدور القبول من المخاطب في التعاقد بين الغائبين أيضًا كما هو الشأن في التعاقد بين الحاضرين. ولكن فقهاء المالكية يرون أن الموجب لا يصح رجوعه قبل انتهاء مدة معقولة- حسن العرف- تتيح فرصة لتأمل المتخاطب فيه.

أما في اشتراط أو عدم اشتراط علم المخاطب بالرجوع عن الإيجاب لترتيب الحكم على هذا الرجوع فإن الفقه الحنفي يتفق على رأي واحد- على خلاف ماورد بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين- وهو: أن الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الغائبين لا يشترط فيه علم المخاطب به، وبعبارة أخرى فإنه يعد تعبيرًا ملقًى وإن الفقه الحنفي قد انحاز في هذه المسألة إلى نظرية الإعلان محمصاني، النظرية العامة، ٢/٦٤؛ سوار، التعبير، ص١٤٧ (وقد جاء في كتاب د. سوار- ص١٠٨- أن الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الغائبين (تعبير متلقي) بالإجماع. ويبدو أن هناك خطأ مطبعيًّا- مع أنه لم يشر إلى ذلك في جدول الأغلاط المطبعية) . ويعبِّر المؤلفون الأحناف عن هذا الحكم بالعبارة التالية وأمثالها: (ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله سواء علم الآخر أو لم يعلم حتى لو قبل الآخر بعد ذلك لا يتم البيع) (١) .

ويختلف الأمر في التشريع الوضعي باختلاف وضع الإيجاب، حيث ينقسم الإيجاب أولًا إلى:

١- إيجاب موجود فعلًا، وهو الإيجاب الذي صدر من الموجب ولما يتصل بعلم المخاطب. وهذا الإيجاب يجوز العدول عنه.

٢- وإيجاب موجود قانونًا، وهو ذلك الإيجاب الذي اتصل بعلم المخاطب.

وهذا ينقسم أيضًا إلى:

(أ) إيجاب ملزم، وهو الذي يلتزم صاحبه أن يبقى عليه مدة يحددها هو، أو يحددها القانون أو العرف. وهذا الإيجاب لا يجوز الرجوع فيه كما لم يجز العدول عنه.


(١) ابن الهمام، فتح القدير، ٥/٤٦٢؛ ابن نجيم، البحر الرائق، ٥/٢٩٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>