للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن جهة أخرى، يشار في بعض الكتب إلى رأي ذكره شيخ الإسلام جواهر زاده في مبسوطه- بعد أن قال (الكتاب والخطاب سواء إلا في فصل واحد) - وهو أن المرأة إذا بلغها الكتاب وقرأته ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح، لأن الغائب إنما صار خاطبًا لها بالكتاب، والكتاب باق في المجلس الثاني بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في مجلس آخر (١) وبعد ذكر هذا الرأي يقول ابن عابدين: (وظاهره أن البيع كذلك وهو خلاف ظاهر الهداية فتأمل) (٢) . ويميل بهذا الكلام إلى أن الإيجاب بالنسبة لعقد البيع (وأمثاله) أيضًا لا يسقط بانفضاض مجلس بلوغ الكتاب ويمكن أن يتم العقد بقراءة الكتاب نفسه في مجلس آخر.

ويؤيد الأستاذ على الخفيف رأي ابن عابدين ويقول بأن المخاطب يمكنه أن يقبل الإيجاب في أي وقت- ما لم يرفضه – (حتى بدون قراءة الكتاب مرة جديدة) . إذ أن الإيجاب قائم في رأيه بقيام الكتاب (٣) .

ولكن الأستاذ أبو زهرة يرى أن قياس البيع على النكاح قياس مع الفارق، لأن النكاح يحتاج إلى شهود ولا يلزم أن يكونوا حاضرين وقت وصول الكتاب فيصح أن ينتظر إلى مجلس الشهود بخلاف البيع فإنه لا يحتاج إلى شهود (٤) .

ويرى د. م.ي. موسى ود. الدريني عدم تجدد الإيجاب بالكتابة في مجلس آخر فيما إذا لم يصدر القبول في مجلس بلوغ الكتاب (٥) .

وإذا انطلقنا من منطلق عدم إلزامية الإيجاب- وهذا هو الحكم المقرر في الفقه الحنفي- ينبغي اعتبار ما يفهم من ظاهر كتب الأحناف وجيهًا أي يناسب القول بأن الإيجاب يسقط فيما إذا لم يصدر القبول في مجلس بلوغ الكتاب. وخاصة إذا وضعنا نصب أعيينا تطبيقات العهود القديمة في هذا الموضوع تتبين هذه الوجاهة بجلاء، حيث إن حامل الكتاب يأتي إلى المخاطب في أغلب الأحيان على أساس أن يتلقى منه جوابًا- سلبيًّا كان أو إيجابيًّا- ويوصله إلى الموجب انطلاقًا من هذا الواقع يصل د. الدريني – أثناء تناوله لمسألة وقت ومكان انعقاد العقد بين الغائبين- على نتيجة أن نظرية الإعلان كانت تتضمن في نفس الوقت نظرية العلم- في نظر الفقهاء-، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطلع عادة على القبول الصادر عن المرسل إليه في ظروف ذلك الزمن.

انظر: الدريني، التراضي، ص٣١٩. (وسندرس قضية اشتراط علم الموجب بالقبول لانعقاد العقد أو عدم اشتراطه في الصفحات القليلة القادمة بشكل مفصل: ٣-٣-٣) . إذن، فإننا تناولنا المسألة في إطار هذه الظروف وانطلاقًا من عدم إلزامية الإيجاب، لا يمكن أن نستسيغ اعتبار قيام الإيجاب مادام الكتاب قائمًا.

ولكن التعاقد بين الغائبين في الوقت الحاضر لا يتم عن طريق ما كان يحدث في العهود القديمة (٦) . حيث يصل الخبر إلى المخاطب في ظروف لا تكون مناسبةً لتكوين مجلس عقد في هذه الأثناء غالبًا. ومن جهة أخرى تستلزم ظروف يومنا ترجيح رأي جمهور المالكية القائل بأن أغلب الإيجاب يكون ملزمًا لصاحبه لمدة يحدد مداها العرف -كما بينا سابقًا-. ويمكن القول بأنه من الأحوط والأوفق لمصلحة الطرفين أن يعين الموجب ميعادًا للقبول وذلك وفقًا لمبادئ الفقه الإسلامي عامة ولفقه الالتزامات المالكي خاصة.

وفيما إذا انطلقنا من هذا المنطلق يمكننا أن نصل في مسألة وقت القبول من زاوية إقرار ارتباط الإيجاب بالقبول إلى النتيجة التالية: إن المخاطب له حق التأمل والتروي في نطاق الميعاد المحدد للقبول وليس من الضروري أن يصدر منه القبول في مجلس بلوغ الكتاب وما في حكمه لاتصال قبوله بهذا الإيجاب. أما إذا انتهى الميعاد المحدد للقبول سقط الإيجاب، ويكون القبول الصادر بعد ذلك في حكم الإيجاب الذي يوجهه المخاطب إلى الموجب الأول الذي سقط إيجابه.


(١) ابن نجيم، البحر الرائق، ٥/٢٩١؛ ابن عابدين (محمد أمين) ، حاشية رد المحتار على الدر المختار، مصر، ١٣٨٦هـ/١٩٦٦م، ٣/١٤، ٤/٥١٢-٥١٣.
(٢) ابن عابدين، حاشية رد المختار، ٤/٥١٣.
(٣) الخفيف (علي) ، أحكام المعاملات الشرعية، الطبعة الثالثة، ط. دار الفكر العربي، ص١٧٨، هامش٢، ص١٧٩.
(٤) أبو زهرة (محمد) ، الأحوال الشخصية، القاهرة، ط، دار الفكر العربي، ص ٤٤-٤٥، هامش رقم ١.
(٥) موسى (م. ي) ، الأموال ونظرية العقد، ص ٣٧٠؛ الدريني، التراضي، ص٣٠٥-٣٠٦.
(٦) نقصد هنا التعاقد بوسائل الاتصال التي يجب في التعاقد بها تطبيق أحكام التعاقد بين الغائبين.

<<  <  ج: ص:  >  >>