للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ب) الرسالة (السفارة) :

لقد ذكر المؤلفون الأحناف أحكام الرسالة والكتابة معًا بصفة عامة دون أن يفرقوا بينهما من جهة الحكم. وعلى هذا فإن الرأي الشائع عندهم بخصوص الكتابة الذي ذكرناه آنفًا يسري على الرسالة أيضًا وإن مجلس آداء الرسالة هو مجلس العقد. وإذا لم يصدر القبول في هذا المجلس يسقط الإيجاب. وينبه ابن عابدين إلى أن الرأي المنقول عن كتاب شيخ الإسلام خواهر زاده في تجدد الإيجاب بتكرار قراءة الكتاب –ذلك الرأي الذي يبدو أن ابن عابدين يتبناه ويرى توسيع مجال تطبيقه أيضًا- ينبه إلى أن هذا الرأي لا يمكن القبول به بالنسبة للرسالة مشيرًا إلى كلام الرحمتي الذي يفيد ضرورة التفريق بين هاتين الطريقتين من هذه الجهة (١) .

ولكن الأستاذ على الخفيف يدافع عن رأيه في هذا الموضع بقوله عن العقد ينعقد إذا أعاد الرسول الإيجاب بعد إعراض المرسل إليه في المرة الأولى- مادام لم يصل خبر الإعراض إلى الموجب- وإذا قبل المخاطب هذا الإيجاب في المرة الثانية. ويرد أ. الخفيف على الاعتراض المحتمل الذي يحتج بأن مهمة الرسول قد انتهت بالتبليغ الأول وليس من مهمته تكرير هذا التبليغ قائلا: إذا أمر الموجب شخصًا ما بالتبليغ أي أظهر إرادته للتبليغ، لا يشترط تحقيق هذا التبليغ من طرف شخص معين. وعلى هذا إذا أعاد الرسول رسالته فلن يكون في تلك الإعادة أقل من شخص قام بها متبرعًا، وإذا فلا مانع من أن نعتبر إعادة التبليغ إيجابًا مبتدأ كما في اعتبارنا الكتاب إيجابًا قائمًا بقيامه (٢) .

وفي مقابل ذلك ينتقد د. الدريني رأي أ. الخفيف –بعد أن أفاد أنه يرجح رأي ابن عابدين - بعبارته التالية: (أما الانعقاد بناء على تبليغ فضولي فلا يقضي بجواز تجدد الإيجاب إذا أعاده الرسول في مجلس آخر- كما قال الأستاذ الخفيف- لأن رضا المرسل بتبليغ أي شخص- بعد أن أعلن رضاه بالتبليغ- لا يدل على رضائه بتكرير الإيجاب لأنه لم يعط للمبلغ هذا الحق، لأن الرسول ليس نائبًا عن المرسل وإنما مهمته مجرد نقل الإيجاب كما قالوا، ولهذا قال الأستاذ الخفيف نفسه: أما ترك الرسول المجلس أو إعراضه أو انتقاله بالحديث إلى موضوع آخر بعد إبلاغه الرسالة فالظاهر أنه لا يترتب عليه بطلان الإيجاب لأن المرسل لم يجعل له حق إبطاله) (٣) .

قبل أن نبين رأينا في هذه المسألة، نرى لزامًا علينا الإشارة إلى أن ما ذكره د. الدريني لا ينهض حجة لما ذهب إليه من أن كلام أ. الخفيف- يبدو كأنه- ينقض نفسه بنفسه. لأن أ. الخفيف يفيد في كلا الموضعين من كلامه أمرين يؤيد أحدهما الآخر ودون أن ينطوي على تناقض بينهما وهما: الأمر الأول عليه سقوط الإيجاب لأن المرسل لم يجعل له حق إبطاله (كما لا يترتب سقوط الإيجاب على إعراض الرسول نفسه أيضًا) ، وبهذا يحكم أ. الخفيف بأن الإيجاب لا يزال قائمًا ولو كان المرسل إليه قد أعرض عن خبر الإيجاب ما لم يبلغ المرسل هذا الإعراض، والأمر الثاني: أن الرسول إذا أعاد الإيجاب بعد إعراض المرسل إليه فلا يعتبره أ. الخفيف بعد ذلك رسولا أعطاه المرسل حق تكرير الإيجاب أو نائبًا عن المرسل وإنما يعتبره كأي شخص آخر اطلع على إعلان الموجب عن رضاه بالتبليغ (وتبليغ الإيجاب بهذه الطريقة يصح حتى في المذهب الحنفي الذي يعتب الإيجاب في التعاقد بين الغائبين تعبيرًا متلقى كما رأينا) .


(١) ابن عابدين، حاشية رد المختار، ٣/١٤.
(٢) الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، ص١٧٨ هامش٢، ص١٧٩ هامش١.
(٣) الدريني، التراضي، ص٣٠٧

<<  <  ج: ص:  >  >>