للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما رأينا في هذه المسألة فيمكن إيجازه فيما يلي: إننا إذا اعتبرنا الإيجاب غير ملزم لمدة معينة- وهو المقرر في أكثر المذاهب وخاصة في الفقه الحنفي- يجب الإقرار بأن الإيجاب يسقط فيما إذا أعرض المرسل إليه عنه في مجلس آداء الرسالة- كما كان في التعاقد بالكتابة-. وبالرغم من إننا نرى احتجاج أ. الخفيف صائبًا بخصوص عدم اشتراط أن يكون التبليغ من شخص معين ووجوب الاكتفاء بإعلان الموجب عن رضاه بالتبليغ فإننا نلاحظ في هذه المسألة أن رأي أ. الخفيف لا يتفق ونظرية اتحاد المجلس إذا حددنا أنفسنا بنطاق أحكام المذهب الحنفي. ولكننا إذا تناولنا رأي أ. الخفيف في إطار حكم إلزامية الإيجاب فيمكننا إذن، أن نحكم بأن الإيجاب يعتبر قائمًا طيلة مدة الإلزام وأن نقول بأن العقد ينعقد بقبول المرسل إليه في هذه المدة حتى دون أن تمس الحاجة إلى تبليغ ثان – ذاهبين إلى أبعد مما قاله أ. الخفيف- وذلك وفقًا للمنطق الذي يعول عليه أ. الخفيف نفسه في مسألة الكتابة-. وهذا هو الحل الذي نرتئيه ملائمًا لظروف وقتنا الحاضر وموافقًا لمبادئ الفقه الإسلامي كما بينا وجه استدلالنا تحت عنوان (الإيجاب) (٣-١-٢) و (الكتابة) (٣-٣-١/أ) .

٣-٣-٢- اشتراط أو عدم اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب لاعتبار الإيجاب ساقطًا:

بادئ ذي بدء ينبغي لنا التنبيه على وجوب عدم الخلط بين المسألتين التاليتين:

الأولى: مسألة سقوط أو عدم سقوط الإيجاب بانفضاض مجلس آداء الرسالة أو الكتاب دون صدور القبول. والثاني: مسألة سقوط أو عدم سقوط الإيجاب في حالة رفضه ما لم يبلغ علم الموجب. والمسألة التي نحن بصددها الآن هي المسألة الثانية.

وقد سبق أن أشرنا في التعاقد بين الحاضرين (٢-٣-١) إلى أن د. الدريني يقول إن الفقهاء لم يتعرضوا لمسألة اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب صراحة ثم يحاول أن يقيس (رفض الإيجاب) على (القبول) في التعاقد بين الحاضرين. وبناء على أن المسألة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعاقد بين الغائبين، كنا قد أجلنا دراستها إلى هذا العنوان.

إن (رفض الإيجاب) تجب ملاحظته (تعبيرًا متلقى) ويكون قياسه على (القبول) قياسًا مع الفارق – حسب ما يبدو لنا-. لأن القيام بتوصيف القبول – أهو تعبير متلقي أم تعبير ملقي- يتعلق بتحديد وقت انعقاد العقد، بمعنى أن السؤال الذي قد يطرح نفسه بهذا الخصوص هو: هل ينعقد العقد بمجرد إعلان المرسل إليه عن القبول الموافق للإيجاب إليه، أم يجب لانعقاد العقد علم الموجب بهذا القبول؟ بينما دراسة (رفض الإيجاب) لا تنصب على ارتباط الإرادتين والنتيجة المترتبة عليه بل تنصب على التأكد من قيام أو عدم قيام (الإيجاب) الذي هو عبارة عن التعبير عن إرادة منفردة إذا تم رفضه مكن طرف من وجه إليه. إذن، يناسب قياس (رفض الإيجاب) على (الإيجاب) ولا يناسب قياسه على (القبول) .

ومن جهة أخرى، فإن رفض الإيجاب – كما أشار إليه د. سوار مصيبًا في نظرنا- قد يتضمن تعديلا للإيجاب السابق فيعتبر عندها إيجابًا جديدًا، والإيجاب كما هو معلوم تعبير متلقى (١)

وفي هذا المضمار نلاحظ أن كلام أ. الخفيف المتعلق بتعليل حكم إعراض المرسل إليه يساعدنا في تحليل هذه القضية وهو كالتالي: (لأننا ما أبطلنا الإيجاب عند الإعراض عنه إلا ليسترد الموجب حريته في التعاقد مع غير من ساومه، أو في الاحتفاظ بملكه وذلك لا يتم إلا إذا علم بالإعراض فما الضرر من اعتبار إيجابه قائمًا إلى أن يعلم، حتى إذا صدر القبول قبل العلم نشأ العقد) (٢) إلا أنه يفيد في مكان آخر أن الرفض الصريح يسقط بالإيجاب. ويقوم د. الدريني بانتقاد كلام أ. الخفيف الآنف الذكر من هذه الجهة ويشير إلى أن التعليل الوارد في هذا الكلام يقتضي عدم سقوط الإيجاب بالرفض أيضًا (٣) . ومع أننا نجد نقد د. الدريني وجيهًا فإننا نرجح أن نحتاط في فهم كلام أ. الخفيف ونرى من الممكن أنه قصد (بالرفض الصريح) الإعراض أو الرد الذي وصل إلى علم الموجب ولم يقصد به مجرد تعبير الرفض الذي لم يبلغ علم الموجب.


(١) سوار، التعبير، ص١٣٢ هامش١. (ويجب الانتباه إلى أن ما يذكر هنا بالنسبة لماهية الإيجاب هو حسب المذهب الحنفي) .
(٢) الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، ص١٧٨ هامش٢.
(٣) الدريني، التراضي، ص١٢٧-١٢٨

<<  <  ج: ص:  >  >>