على أننا لو اعتبرناها (إدراجًا) لما أوهى ذلك احتجاجنا بهذا الحديث على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر الإشارة وسيلة تعبير موثقة ينبني عليها الحكم ذلك بأنَّها إن لم تكن في قصة الجارية واليهودي وثيقة إدانة فهي – بلا ريب – وثيقة اتهام ولسنا بصدد الاحتجاج لاعتبار اعتراف الجاني ضروريًّا أم غير ضروري في إدانته فهذا ليس من مجالنا وإنَّما نحن بصدد الاحتجاج لاعتبار الإشارة كغيرها من وسائل الإفهام غير النطق أداة توثيق، وهذا حسبنا من الحديث الشريف.
وقال العيني في [عمدة القاري: ٢٠/٨٨٤، ٨٨٥] معقبًا على ما سبق أنْ نقلناه عن البخاري وترجم له (باب الإشارة في الطَّلاق والأمور) :
قال المهلّب: إذا فهمت يحكم بها، وأوكد ما أوتي به من الإشارة ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في أمر السوداء حين قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة. فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عامة في سائر الديانات وهو قول عامة الفقهاء. وقال مالك: الأخرس إذا أشار بالطَّلاق يلزمه، وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الطّلاق والرجعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أن كانت إشارته تعرف في طلاقه ونكاحه وبيعه فهو جائز عليه وإن كان يشك فيه فهو باطل. وقال: ليس ذلك بقياس إنما هو الاستحسان، والقياس في هذا كله باطل لأنّه لا يتكلَّم ولا تعقل إشارته. وقال ابن المنذر: وفي ذلك إقرار من أبي حنيفة أنه حكم بالباطل لأن القياس عنده حقٌّ، فإذا حكم بضدِّه وهو الاستحسان فإنَّه حكم بضدِّ الحقّ، وفي إظهار القول بالاستحسان وهو ضد القياس دفع منه للقياس الذي هو عنده حق. وتعقبه العيني بقوله: وقول أبي حنفية: القياس، فهذا باطل، هل يستلزم بطلان الأقيسة كلِّها؟ ! وليس الاستحسان ضد القياس بل هو نوع منه لأنَّ القياس على نوعين: جليّ وخفي، والاستحسان قياس خفيّ.
ثم قال:
وقال أصحابنا: إشارة الأخرس وكتابته كالبيان باللسان فيلزمه الأحكام بالإشارة والكتابة حتى يجوز نكاحه وطلاقه وعتقه وبيعه وشراؤه وغير ذلك من الأحكام، بخلاف معتقل اللسان – يعني الذي حبس لسانه – فإنَّ إشارته غير معتبر لأن الإشارة لا تنبئ عن المراد إلا إذا طالت وصارت معهودة كالأخرس.
ثم قال:
وفي (المحيط) ولو أشار بيده إلى امرأة وقال: (زينب) أنت طالق، فإذا (عمرة) طلقت (عمرة) لأنه أشار وسمَّى فالعبرة للإشارة لا للتَّسْمية.
أما الحديث الذي عرض له العيني فيما نقلناه عنه آنفًا من قوله:(وأوكد ما أتي به من الإشارة ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في السوداء حين قال لها: ((أين الله؟ فأشارت إلى السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة)) ... إلخ) .
فأخرجه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي.