للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما يؤكد هذه الغرابة وبطلان هذه الشهادة، كون البوادي الذين يسكنون في الصحراء البعيدة عن غبار المدن ودخانها وارتفاع بنيانها وقد منحوا من قوة الإبصار نتيجة صحة الأجسام، فكان أحدهم يرى ويعرف سمة الإبل قبل أن يرى اكثر الحضر أجسامها ويحرصون أشد الحرص على التطلع إلى الهلال وقت التحري له ولا يرونه، بينما يدعي أحد هؤلاء رؤيته وهي غير صحيحة في ظاهر الأمر.

فلا عبرة بمثل شهادة هؤلاء، مع قيام الدليل العقلي على بطلانها، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها.

ثم أن رؤية الهلال يقع فيها الوهم والاشتباه دائما حتى من بعض العدول الثقات، بحيث يخيل للشخص انه رأى الهلال ولم يكن هلالا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} .

من ذلك أن جماعة كانوا يتراءون هلال رمضان وفيهم أنس بن مالك، خادم رسول الله – رضي الله عنه – وكان قد قارب مائة سنة، وفيهم إياس بن معاوية، المعروف بالفراسة، فبينما هم ينظرون إليه إذ قال انس بن مالك: أنا رأيت الهلال هو ذاك، وأخذ يشير بإصبعه إليه ولا يراه الناس، فقام إياس بن معاوية فمسح شعر عيني أنس، ثم قال: أنظر يا أبا حمزة، هل ترى شيئا؟ فنظر ثم قال: الآن لا أرى شيئا، فعرفوا انها شعرة اعترضت لعينه فحسبها هلالا (١) .

اجتمع عدد من الرؤساء العقلاء في مكان عال من الصحراء يتراءون الهلال قالوا: فنظرنا إلى قطعة سحاب من شكل الهلال وفي مطلع الهلال فجعلنا نكبر ويريه بعضنا بعضا، لا نشك إلا انه الهلال، فينما نحن كذلك نحقق فيه النظر، إذ رأيناه يتمزق وبعد قليل اضمحل وزال فعرفنا أنها قطعة سحاب، والله أن العجول من الناس ليشهدوا أنه رأى الهلال، ومثل هذا يقع كثيرا بين الناس، ولهذا امر الله بالتثبت في خبر الفاسق.


(١) ذكر هذه القصة ابن خلكان في تاريخه في ترجمة إياس – ص٢٢٦ الجزء الأول

<<  <  ج: ص:  >  >>