ثم أن الخبر برؤية الهلال هو بمثابة الخبر عن رسول الله، انه فعل وقال: إذ لكل خبر ديني مما يتعلق بالأحكام والحج والصيام وأمور الحلال والحرام.
ولما رأى العلماء كثرة الكذب على رسول الله، انه فعل وقال، اخترعوا فن الجرح والتعديل ليميزوا به بين الصادق الأمين والكاذب المهين، فكانوا يقولون: فلان كذاب وفلان مدلس وفلان كثير الوهم وفلان غير ثبت وفلان ينفرد بالمناكير وفلان يشذ بحديثه عن الثقات، ونحو ذلك من المميزات التي تقتضى التحذير عن الاغترار بخبرهم أو تصديقهم في شهادتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة لله ولدينه وعباده المؤمنين.
وكان أول من اعتني بالتحفظ على الشهادة والعقاب على ما دخل فيها من النقص والزيادة، هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في قصة مشهورة حاصلها ما رواه البخاري في صحيحه، أن ابا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع وكان عمر مشغولا، فلما أفاق من شغله قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ يعني ابا موسى الأشعري، قالوا: بلى، قال: ائذنوا له، فطلبوه فلم يجدوه فأرسل في اثره من يرده إليه، ثم قال له: ما حملك على أن ترجع، قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا استأذن أحدكم على أخيه ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع)) ، فقال عمر: إني لم أسمع ذلك أبدا، والله لتأتين بشاهد يشهد يشهد لك بذلك، أو لأوجعن ظهرك.فانطلق أبو موسى مذعورا حتى وقف على ملأ من الأنصار فقال: أنشدكم بالله، هل أحد منكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إذا استأذن أحدكم على أخيه ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع)) ، قالوا: اللهم نعم، فقال: ليشهد معي أحدكم عند عمر، فقالوا: يشهد معك أصغرنا، قم يا أبا سعيد الخدري فاشهد معه، فجاء أبو سعيد فشهد عند عمر فقال: صدقت، أشغلني عنها الصفق بالأسواق.
فهذا من فنون سياسته في رعيته وتثبته في الشهادة بما لا يثق بصحته حتى لا يدخل الخلل على الدين بالنقص والزيادة من طريق الشهادة المزورة، وإنما سميت الشهادة الكاذبة بشهادة الزور لازورارها عن طريق الحق والعدل.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} )) رواه الإمام احمد من حديث خريم بن فاتك الأسدى.