للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا وجب ذلك في العرف وجب في الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو – عند الله – حسن ... إلخ)) .

قلت: دأب أغلب الأصوليين على الاستشهاد بهذا الحديث باعتباره دليلًا من أدلة الإجماع، وعندي أنَّ هذا وهم؛ ذلك بأنَّ (أل) في حديث (ما رآه المسلمون) ، وإن كانت لاستغراق الجنس لا تعني جماعة المسلمين كافة، فقد تأتي (أل) الاستغراقية ويراد بها الجمهور أو الأغلب أو ما شاكل ذلك، ولا سبيل إلى اعتبارها كلّما وردت دليلًا على الاستغراق المطلق الشامل.

قال ابن هشام في [المغني: ٧٣] ، في معرض ذكره لدلالة (أل) :

والجنسية أمَّا لاستغراق الأفراد، وهي التي تخلفها (كل) حقيقة نحو: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [سورة النساء: الآية ٢٨] ، ونحو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سورة العصر: الآية٢] ، أو لاستغراق خصائص الأفراد وهي التي تخلفها (كل) مجازًا نحو: زيد الرجل علمًا أي الكامل في هذه الصفة ومنه {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [سورة البقرة: الآية ٢] ، أو لتعريف الماهية وهي التي لا تخلفها (كل) لا حقيقةً ولا مجازًا نحو: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [سورة الأنبياء: الآية٣٠] . وقولك: والله لا أتزوَّج النساء، أو لا ألبس الثياب، ولهذا يقع الحنث بالواحد منهما، وبعضهم يقول في هذه إنّها لتعريف العهد فإن الأجناس أمور معهودة في الأذهان متميز بعضها عن بعض ويقسم المعهود إلى شخص وجنس ... إلخ) .

وعندي أنَّ اعتبار (أل) في (ما رآه المسلمون) للجنس المعهود هو الأولى، ذلك بأنَّ استحسان المسلمين لشيء لا يتوقف على إجماعهم على استحسانه ضرورة أنهم ليسوا بحاجة لإثبات حسنه إلى أن يجمعوا على ذلك بحسبه أن يراه غيرهم حسنًا ليثبت حسنه، ولا سبيل على القول بأنَّ استحسان البعض وسكوت الباقين قد يعتبر من الإجماع السكوتي عند من قال به، إذ يرد مثل هذا القول بأن ما قد يستحسنه البعض منهم بل قد ينكره، ومن ذلك استحسانهم الاحتفال بالمولد النبويّ، ففي المسلمين من لا يراه حسنًا بل فيهم من ينكره ويراه بدعة، ومع ذلك فإن جمهور المسلمين لم يعدلوا عنه لرأي هؤلاء أو أولئك، فهو عندنا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا)) . الحديث.

واعتبارًا لهذا ولأنَّ الحديث عندنا ليس دليلًا على حجية الإجماع فهو إذن دليل على نوع من العرف غفل عنه بعض الأصوليين، وهو عرف المسلمين أو بالأحرى عرف جمهور المسلمين، وهو مرتبة بين الإجماع وبين العرف الذي هو العادة والذي اعتمده جماهرة الأصوليين باعتباره مصدرًا من مصادر التشريع يصار إليه عند عدم وجود نصّ أو إجماع عند من لا يقول بالقياس أو عدم وجود أساس قياسي عند من لا يقول بالقياس الخفي أو شبه القياس.

<<  <  ج: ص:  >  >>