للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن جميع الطرق المعروفة اليوم لتحديد عمر الجنين ما زالت تقريبية، سواء ما اعتمد منها على إخبار الحامل ببدء حملها وحصول إلقاحها، أو بتاريخ آخر حيض رأته، وما اعتمد منها على القياسات الطبية، فإن ذلك كله يدخله احتمال الخطأ (١) ؛ لذلك وجب أن تجعل فترة احتياطية قبل تمام المائة والعشرين يوماً تكون حريماً للروح، وسياجاً زمنياً لها، بحيث تعطى الجنين فيها حكم الجنين الذي قطع بنفخ الروح وأما تحديد هذه المدة باليوم أو بالأسبوع ونحو ذلك، فإني غير مؤهل له بلا شك، ولكن يمكن تقييدها بقيدين اثنين، وعلى ضوئهما يمكن لأهل الاختصاص تحديدها:

القيد الأول: أن يستبعد من وسائل تقدير عمر الجنين تلك الطرق التي تعتمد على إخبار المرأة، لما قد يرد عليه من احتمالات الخطأ والتضليل، وإنما ينبغي أن تعتمد على أدق الوسائل العلمية في تحديد ذلك، ولا بأس بأن يستأنس بإخبار المرأة دون الاعتماد عليه.

القيد الثاني: أن لا يكون خلاف بين أهل الاختصاص في عدم إمكان وقوع خطأ في تقدير عمر الجنين يساوي الفترة الاحتياطية المقترحة أو يزيد عليها؛ فلو ذهب معظم أهل الاختصاص من الأطباء إلى أن الخطأ في تقدير عمر الجنين في الأشهر الأربعة الأولى قد يصل إلى عشرين يوماً ولا يتجاوزها، ورأى بعضهم أن الخطأ قد يتجاوز ذلك، وجب أن لا يؤخذ بها لتحديد فترة حريم الروح، ولكن يجب أن يؤخذ بالحد الأعلى الذي لا خلاف حوله.

وقد يقال: إن الأحكام العملية تبنى على غلبة الظن كما قرر علماء الأصول (٢) والوسائل العلمية الدقيقة مع المعلومات التي تعطيها الأم عن بدء الحمل تكفي لتوليد غلبة ظن قوي بصحة عمر الجنين، وينبغي أن تبنى عليها الأحكام، وأن لا ينظر إلى الحالات الشاذة التي قد يحدث فيها الخطأ.

والجواب أن مجال الأرواح البشرية من المجالات التي تراعى فيها الشبهات، ويكون لها أثر في تغيير الأحكام لصالح الإبقاء على تلك الأرواح، والخطأ في تقدير عمر الجنين في هذا المقام قد يؤدي إلى إزهاق روح نفخت في ذلك الجنين الذي وقع الخطأ في تقدير عمره. ووجود احتمال هذا الخطأ مهما كان ضعيفاً يعتبر شبهة محرمة. ومن المعلوم أن مبدأ اعتبار الشبهات في الأحكام مبدأ مسلم به في باب العقوبات الشرعية المقدرة، حيث تقوم فيها غلبة الظن على وقوع موجباتها، فيهدرهذا الظن القوي ويعتبر فيها الاحتمال الضعيف، ويدرأ العقاب الشديد عن المجرم. فإذا كان كذلك فإن الأخذ بهذا المبدأ والاحتياط لروح الجنين أولى؟ لأن الجنين هنا على فرض وقوع الخطأ في تقدير عمره، وسبق نفخ الروح فيه، إنسان معصوم، ولم يرتكب شيئاً يستوجب العقاب، فالاحتياط له أولى، فلا ينبغي أن يقال بجواز إسقاط الجنين لأي عذر أو مصلحة إلا إذ احصل اليقين بأن الروح لم تتصل بجسده بعد، وأنه لم يبلغ مائة وعشرين يوماً، وحيثما قال الأطباء: إن هنالك احتمالاً – مهما كان ضعيفاً – ببلوغ الجنين ذلك العمر، فيجب استثناؤه من حكم الجواز.


(١) انظر كتاب "خلق الإنسان بين الطب والقرآن " – محمد علي البار: ص ٤١١ وما بعدها، وانظر أيضاً في كيفية تقدير عمر الجنين كتاب (تطور الجنين وصحة الحامل " – محي الدين العلبي: ص ٢٢٣ وما بعدها.
(٢) انظر كتاب: ٥ المنخول من تعليقات الأصول لأبي حامد الغزالي: ص ٣٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>