وذلك أن علماء الإسلام قد قرروا - كما سبق بيانه - أن الذي يؤثر في الجسد الإنساني، وينتج عنه تصرفات الإنسان هو مخلوق عاقل نفخه الله في ذلك الجسد اسمه الروح، وأن كل نشاط اختيار يقوم به الإنسان من أثر من آثار الروح، وأن كل ما في العالم من الآثار الإنسانية إنما هو من تأثير الأرواح بواسطة الأبدان التي تعلقت بها؛ فالأبدان آلات للأرواج وجنود لها (١)
وأما العلماء الماديون، فإنهم لا يبحثون إلا في المحسوس، ولا يعترفون إلا بنتائج هذا البحث المادي؟ فإذا أرادوا تفسير أي نشاط يقوم به الإنسان تتبعوا ما يحدث لأجزاء الجسم المحسوسة عند ممارسة هذا النشاط، ولاحظوا مختلف التطورات والأفعال وردود الأفعال المحسوسة التي تقوم بها أعضاء الجسم المختلفة، فإذا انتهى بهم المطاف إلى آخر نشاط حيوي يقع تحت آلاتهم، نسبوا ذلك إلى العضو - الذي صدر عنه هذا النشاط الأخير - التصرف الذي قام به الإنسان.
وهكذا عندما اكتشفوا أن المخ هو العضو الأخير الذي ينفعل بأنواع من الانفعالات لكل تصرف يصدر عن الإنسان نسبوا إليه كل تصرف إنساني ماديا كان أو غير مادي.
والحقيقة أنهم قد يكونون على حق في تفسير جميع الخطوات المادية التي تتم داخل الجسد عند قيام الإنسان بتصرف ما، فهذا مجالهم وهم أدرى به.
ولكن الذي لا يقرون عليه أن ينسبوا النتائج النهائية إلى العضو المادي الذي كانت فيه خاتمة الانفعالات المادية قبل صدور ذلك التصرف، دون النظر في مدى التناسب بين ماهية ذلك العضو وخصائصه الخلقية وبين طبيعة الأنشطة التي نسبوها إليه؟ وذلك أن جميع التصرفات الإرداية الصادرة عن الإنسان فيها عنصر معنوي غير مادي هو الإرادة؛ والذي تدل عليه سنن الحياة ومعهودات الكون أن المادة لا يمكن أن تنتج المعاني، وإنما ينتج عن المادة مادة مثلها. ولا بد من أن يكون هناك مخلوق غير مادي عاقل مريد خلقه الله في جسد الإنسان، تصدر عنه جميع المعاني التي لا يمكن نسبتها إلى المادة.
(١) كتاب الروح لابن القيم: ص ٢٤٢، ٢٨٥. شرح العقيدة الطحاوية: ص ٣٨١.