أما المصالح المرسلة: فهي التي تعتبر دليلاً مستقلاً تبنى عليه الأحكام عند القائلين بها إذا كانت تحقق نفعاً للناس أو تدفع عنهم ضرراً. ويتبين من التعريف السابق بأن المصالح التي شهد لها الشارع بحكم معين لا تعتبر من قبيل المصالح المرسلة، بل يعتبر حكمها ثابت بنص الشارع. كما أن الأسباب التي تدعونا إلى الاعتماد على قاعدة المصالح المرسلة في استحداث الأحكام الشرعية يمكن إجمالها في أربع قواعد، هي: جلب المصالح، درء المفاسد، سد الذرائع (أي منع الطرق التي تؤدي إلى إهمال الأحكام الشرعية والتحايل عليها) تغير الزمان (وهو ما يعبر عنه بالقاعدة الشهيرة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) والمصالح المرسلة؛ وإن كانت تتفق مع الاستحسان في الغاية إلا أنهما يختلفان من حيث إن الاستحسان صوروه على أنه استثناء من القواعد التي يوجبها القياس، وخاصة استحسان الضرورة كما نص الأصوليون على ذلك. أما المصالح فهي أعم من ذلك لأنها تشمل الاستحسان، وتشمل أيضاً الحالات التي توجب المصلحة إقرارها، ولا يقوم دليل من الشارع على اعتبارها أو عدم اعتبارها، فتكون المصلحة هنا هي الدليل الوحيد الذي تبنى عليه الحكم. ومن هنا اعتبرها المالكية أصلاً مستقلاً بذاته تبنى عليه الأحكام. ذلك أن المصلحة المرسلة عند المالكية تطبق في حالتين: الأولى: إلا يكون في الموضوع قياس محمول على نص وحينئذ تكون المصلحة هي الدليل وحدها. والحالة الثانية: هي ما إذا كان اطراد القياس يؤدي إلى الوقوع في حرج أو ينافي مصلحة ظاهرة، فحينئذ يترك القياس لهذا النفع المجتلب، ولذلك الضرر المجتنب وإن سمي هذا النوع الذي قوبل بالقياس استحسانا، ومن هنا نجد جوهر الاستحسان عند الحنفية والقائلين به يتفق مع جوهر المصالح المرسلة عند المالكية والقائلين به أيضاً. غير أن المالكية بنوا نظريتهم في المصالح المرسلة في تاريخ لاحق لنظرية الاستحسان عند الحنفية، فجاءت نظرية المالكية أوفى وأوسع وحظيت بصياغة فنية دقيقة برزت في مذهبهم واشتهروا بها، وواقع الأمر أن الحنفية عندما سلموا بالاستحسان الذي يقضي بالعدول عن القواعد القياسية إلى الأخذ بما هو الأوفق للناس وأيسر لهم والالتفات إلى المصلحة والعدل قد اعتمدوا على المصالح المرسلة في تقدير هذه الاستثناءات وإن سموا هذا الاستنباط استحساناً، وهو أيضاً الذي يسميه بعض الأصوليين باستحسان الضرورة. أما المالكية فلم يقفوا في الاعتماد على المصالح المرسلة عند حد ترك القياس الذي يؤدي اطراده إلى خلاف المصلحة، بل جاوزوا ذلك النطاق إلى حد اعتبار المصلحة المرسلة دليلاً مستقلاً تبنى عليه الأحكام، فتكون هي الدليل عندما لا يوجد دليل سواها.