للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن حفظ الكليات الخمس واجب شرعاً عند العلماء، ومن ذلك حفظ النفس بإنقاذ حياة نفس أخرى أو سلامة عضو من أعضائه بنقله من حي أو ميت بحيث يقدمان صورة متكاملة من المعالجة التشريعية الدقيقة لهذا الموضوع وفقاً لأحكام الشريعة. قال الإمام الشاطبي: لما كانت المصالح الدنيوية لا يتخلص كونها مصالح محضة، وإنما تكون على مقتضى ما غلب، فإن كانت المصلحة هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتبار فهي مقصودة شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد. وقريب من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام في قواعده حيث قال: وما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه كقطع اليد المتآكلة حفظاً للروح إذا كانت الغالبة السلامة، فإنه يجوز قطعها. وهكذا كان الحكم صراحة في جواز قطع عضو إنسان لضمان استمرار سلامة البدن ونظيره شق بطن المرأة على الجنين المرجو حياته لأن حفظ حياة الجنين أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمه. فالمصلحة ما دامت هي المقصودة من التصرف لا تمنع بمجرد وقوع المفسدة مادام أن المصلحة هي الراجحة. ويقول العز بن عبد السلام: ربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى المصالح المحققة. والشريعة الإسلامية إنما تهدف بالجملة إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وحيثما تكون المصلحة راجحة، فثم شرع الله تعالى. والنفس البشرية معصومة ومحترمة، ولذا تعلق بها حق الله تعالى حتى لا يبلغ بها أصحابها في وقت من الأوقات أو في بلد من البلدان إلى مرتبة السلعة تباع وتشترى ولا يخفى ما في ذلك من إهدار الآدمية الإنسانية وهدم لبنيان الرب كما جاء في الأثر: الجسم بنيان الرب، ملعون من هدمه: أي ظلما وعدواناً من غير وجه حق. ومما تقدم نخلص إلى القول بأن الإيصاء بعضو من الأعضاء في حال الحياة على أن يفصل من الموصي بعد الوفاة لينتفع به آخر تتوقف حياته عليه، أو عضو من أعضاء الجنين في موضوع البحث الذي أجهض بدون أي اعتداء على حياته بقصد الاستفادة منه، سواء أكان ذلك الجنين ميتاً أو فيه حياة أثبت الطبيب الشرعي بأن الحياة التي فيه في حكم العدم، وأن من مثله لا يمكن أن يعيش. فإن مما يرتبط بهذا المبدأ عدم جواز المتاجرة بأعضاء الإنسان، والبعد عن كل ما يؤدي إلى التشويه والمثلة والمحافظة على حياة الإنسان والتنديد بكل ما يضره ويؤذيه وترتيب الأجزية الرادعة على كل عدوان عليه بقتله، أو إتلاف عضو من أعضائه مما هو معروف في أحكام القصاص والديات، وأن مما ينسجم مع هذا المبدأ جواز الانتفاع بعضو الإنسان الآخر إذا كان يحفظ حياة المنتفع به دون أن يضر بالمنتفع منه، وأن ذلك لا يجوز في حالة الإضرار بالمنتفع منه أو تسبب هلاكه، لأن حق الحياة في الناس في نظر الشريعة واحد، والضرر لا يزال بالضرر ولا بمثله، ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

<<  <  ج: ص:  >  >>