للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم إن القواعد والضوابط والشرائط الشرعية لا تعنى بغير ضرورة التثبت من توافر شروط إقامة الحد والقصاص، ومراعاة مبدأ التكافؤ والمماثلة دون زيادة أو جور، ومنع من تعاقب واستمرار الأضرار التي قد تؤدي إلى الهلاك أو الموت نتيجة تطبيق الحد؟ لأن الحد شرع للزجر لا للإتلاف، كما بينا، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحسم محل القطع وأوجب حسم ما قطع، والحسم: الكي بالنار، فقال فيما أخرجه الحاكم والبزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه)) (١) والحسم دواء وإصلاح يتحرز به عن الإتلاف (٢) فيكوى بالنار محل القطع لينقطع الدم، لأن منافذ الدم تنسد، وإذا ترك فربما استرسل الدم، فيؤدي إلى التلف.

وينوب شرعاً العلاج الحديث الذي يمنع نزيف الدم مناب الكي بالنار، لأن المراد تحقيق غاية معينة، وهي قطع الدم ومنع النزيف، فبأي وسيلة تحقق الغرض، جاز ذلك شرعاً، لأن الله تعالى أمر بالإحسان في كل شيء.

وإذا كانت الغاية من الحسم هي الدواء والعلاج لقطع النزيف الدموي، فلا يكون المراد منه استئصال اليد أو العضو بحيث لا يمكن إعادة اليد مثلاً إلى موضعها إذا توافرت شروط معينة.

والاستحسان والمصلحة الضرورية أو الحاجية وغيرها من أصول الاستدلال لا تمنع من القول من إعادة اليد، بحجة مصادمتها للنصوص الشرعية، لأن إعمال النص قد تحقق بقطع اليد أو بالقصاص، وما وراء ذلك يكون على أصل الإباحة، والأصل في الأشياء النافعة الإباحة، وفي الأشياء الضارة المنع أو الحظر، ولا شك بأن إعادة اليد أمر نافع نفعاً محضاً لصاحبها، بعد أن ذاق وبال أمره، ونكل به، وتم التشهير بجريمته أمام ملأً من الناس.

ومبادىء السياسة الشرعية التي هي التدابير الممنوحة للحاكم لفعل ما يراه محققاً لمصلحة عامة، أو معالجة أمر مؤقت، لا تمانع من إعادة اليد إذا كان ذلك علاجاً لحالات معدودة، وليست ظاهرة عامة تؤدي إلى تجرؤ اللصوص والمحاربين (قطاع الطرق) والجناة على ارتكاب الجرائم، وهم في مأمن من آثار العقاب، إذ سيجدون الوسيلة أو الذريعة إلى إعادة ما قطع أو بتر أو هشم أو جدع أو قلع أو كسر لأنه إذا استمرأ الجاني فعله، وهان عليه اللجوء إلى الجريمة واستسهل العقاب، ورأى أمامه الحيلة الطبية في ترميم ما فقد منه، وجب حينئذ سد الذرائع وإقفال الباب أمامه، وأصبح غير مستحق للمعاملة الإنسانية الكريمة على الدوام.


(١) سبل السلام: ٤/١٣٠٣، طبع دار الجيل في بيروت.
(٢) المبسوط للسرخسي: ٩/١٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>