للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"ليس الشديدُ بالصُّرَعَةِ، إنما الشديدُ الذي يملكُ نفسهُ عند الغضبِ (١) " رواه البخاري ومسلم.

[قال الحافظ]: وسيأتي باب في الغضب ودفعه إن شاء الله تعالى.


(١) أي ليس القوي الذي يصد الناس ويغلبهم. قال القسطلاني: الصرعة من يصرع الناس كثيراً بقوته فنقل إلى الذي يملك نفسه عند الغضب فإنه إذا ملكها قهر أقوى أعدائه وشر خصومه، ولذا قيل "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" وهذا من فصيح الكلام، لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ، وقد ثارت عليه شهوة الغضب فقهرها بحلمه وصرعها بثباته كان كالصرعة الذي يصرع الرجال، ولا يصرعونه. أهـ ص ٢٨٥ جواهر. سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الشجاعة والعزة في كبح جماح النفس أن تسترسل في حدتها وتنطلق في غضبها:
(أ) قال تعالى: "والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون" (٢٧ من سورة الشورى).
(ب) وقال تعالى: "الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" (١٣٤ من سورة آل عمران). (كبائر الإثم): ما يتعلق بالبدع والشبهات، والفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية (ينفقون): في حال اليسر والعسر والسرور والحزن، (والكاظمين): الممسكين لا يؤاخذون من جنى عليهم إحساناً إلى المسيء رجاء أن ينزجر.
(جـ) وقال تعالى: في بيان ذم الغضب "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين" من سورة الفتح. قال الغزالي: الآية في ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل، ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة. أهـ. وقوة الغضب محلها القلب؛ ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام، وقد وصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والحمية خشية التفريط فقال عز شأنه: "أشداء على الكفار رحماء بينهم" من سورة الفتح.
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" من سورة التحريم. ولذا قال الشافعي رحمه الله: من استغضب ولم يغضب فهو حمار. قال الغزالي: فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً. أهـ ص ١٤٥ جـ ٣
والإفراط في الغضب الخروج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظرة وفكرة ولا اختيار. بل يصير في صورة المضطر. قال الغزالي: والمحمود غضب ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب الحمية، وينطفئ حيث يحسن الحلم، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده، وهو الوسط الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "خير الأمور أوساطها" وثمرة الحمية الضعيفة قلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة والأمة، واحتمال الذل من الأخساء وصغر النفس والقماءة، وهو أيضاً مذموم، قال صلى الله عليه وسلم: "إن سعداً لغيور وأنا أغير من سعد وإن الله أغير مني" وإنما خلقت الغيرة لحفظ الأنساب، ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب، ولذلك قيل كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها، ومن ضعف الغضب الخور والسكوت عند مشاهدة المنكرات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي أحداؤها" يعني في الدين، وقال تعالى: "ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" من سورة النور. أهـ غزالي. وقيل في قوله تعالى: (ربانيين): أي حلماء علماء، وعن الحسن في قوله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" (٦٣ من سورة الفرقان). قال حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقال عطاء بن أبي رباح =

<<  <  ج: ص:  >  >>