قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة، والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، عرض لهم من ذلك فسادٌ في فطرهم، وظلمةٌ في قلوبهم، وكدرٌ في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم، حتى نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكراً، فجاءت دولةٌ أخرى، قامت فيها البدع مقام السنن، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الغلبة لهذه الأمور، فإذا رأيت هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، فبطن الأرض والله خير من ظهرها، إلى أن قال رحمه الله: اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش، وغلبة المنكرات والقبائح.
وهذا والله مؤذن بسيل عذابٍ قد انعقد غمامه، ومؤذنٌ بليل بلاءٍ قد ادلهم ظلامه، فاعتزلوا عن سلوك هذا السبيل بتوبةٍ نصوح، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}[الشعراء:٢٢٧].
إخوة الإسلام: هذا ما وصفه ذلك الإمام العظيم، في القرن السابع، فما بالكم بأهل هذا القرن؟! الله المستعان! لا ريب أن الأمر أشدُ وأخطر، إذ أصبح الإسلام غريباً بين أهله، وقد اكتفى أكثر الناس من الإسلام باسمه، والانتساب إليه دون عملٍ بأحكامه، فعقائدهم وعباداتهم قد داخلها الشرك والخرافة والبدعة والضلالة، ومعاملاتهم استولى عليها الغش والظلم والخديعة، وأخلاقهم قد جردت عن الفضيلة، وغزتها الرذيلة، إلا من عصم الله، وأموالهم شابها التعامل المحرم؛ من الربا والرشوة والظلم والسرقة وغيرها، وأنظمتهم دنستها القوانين الوضعية، وشبابهم قد أغرق في اللهو بأنواعه، وضيع واجبه ورسالته في الحياة، ونساؤهم قد تخلين عن الحياء والعفة، والفضيلة والحشمة، وكُنَّ سبباً في إشعال نار الفتنة، بأعمالهن الفاضحة المخالفة للسنة، حتى عمّ الفساد في البلاد والعباد، وجاهر الناس بالمنكرات والمحرمات، وأضيعت الصلوات، واتبعت الشهوات، وضعف أهل الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإلى متى الغفلة أيها المسلمون؟! إن هذا والله منذرٌ بخطرٍ عظيم، وبلاءٍ عاجل، إن لم نصحُ من غفلتنا، كما يتطلب هذا الوضع، يقظةً عامة، وصحوةً رشيدة، للقادة المسلمين، وعلمائهم، والدعاة إلى الله، ليصلحوا ما فسد من أحوالهم، قبل أن يحل بهم ما حل بغيرهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:٤١].
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{إن الله تعالى يغار، وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرم الله عليه}.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أصلح فساد قلوبنا، وتب علينا، ولا تؤاخذنا بذنوبنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.