إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، اللهم لك الحمد كله ولك الشكر كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على كل حال، ونعوذ بك من حال أهل الضلال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، كريم السجايا وشريف الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المآل، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصيته سبحانه وتعالى للأوائل والأواخر، وبها تسمو الضمائر، وترق المشاعر، وتقبل الشعائر، وهي الزاد الحقيقي في هذه الدنيا وغياهب المقابر، وبها النجاة يوم تبلى السرائر.
أيها المسلمون! حينما تخيم على الأمة الليالي الحوالك؛ فإنها بحاجةٍ إلى من يضيء لها المسالك، وعندما تتقاذف سفينة المجتمع أمواجٌ من التيارات وطوفان من التحديات، تمس الحاجة إلى ربابين مهرة، ورجال مصلحين بررة، يقودون دفتها إلى بر الأمان، وشاطئ السلام.
إخوة الإسلام: الصراع بين قوى الخير والشر سنة جارية، وشرعة ماضية، تؤكدها شواهد التاريخ وشهادات الواقع، غير أن النهاية الحتمية تأكيداً لوعد الله الذي لا يتخلف، وسنته التي لا تتغير ولا تتبدل هي إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}[الرعد:١٧]، ومن فضل الله ولطفه ورحمته بعباده أن يهيئ لهذه الأمة في كل زمان ومكان من يضيء لها معالم الدروب، ومن يقارع بإذن الله عواتي الخطوب، ويقاوم شدة الأمواج العاتية، ويصارع قوة التيارات الغاشمة، ومن يجدد لهذه الأمة أمر دينها {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:٣٢].
معاشر المسلمين! إنه لم تكد القرون المفضلة تنقضي، والعصور الزاهية لهذه الأمة تنتهي حتى بدأت الأمة في الانحدار، وأخذ تطبيق الإسلام بالانحسار، فكثرت الانحرافات، وتمكنت الفرقة والخلافات، بدلت قوة الأمة ضعفاً ووهناً، وعزتها ذلةً واستخذاءً، وأغار أعداء الأمة على كثير من بلادها، فنهبوا خيراتها، وعبثوا بمقدراتها، واستغلوا ثرواتها، وتداعوا عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، تتابعت الحملات الصليبية، والهجمات التترية، وتهاوت الحضارة الإسلامية في الأندلس بعدما نعمت بها ثمانية قرون، واقتسم الأعداء تركة الرجل المريض، وعبثوا بمقدسات الأمة، وسقطت دويلات المسلمين في أيدي العابثين المستعمرين.
وبدأت حملات التغريب، وسياسات تجفيف المنابع الخيرية في الأمة، ومسخت الهوية الإسلامية في كثير من بلاد المسلمين، وعلت الشعارات القومية، والنعرات الطائفية، تلتها الحدود الجغرافية، والتقسيمات الإقليمية، وخطب كثير من المنتسبين إلى الإسلام ود أعدائهم، وحورب الإسلام بمصطلحات غربية أشهرها في هذه الآونة ما يعرف بمصطلح العولمة الذي يعد باختصارٍ غابةً مظلمةً تملؤها وحوش كاسرة.
إنه يرمي إلى تحويل العالم إلى قرية واحدة، لكنه يثير اليوم زوابع منتنة، وينفث سموماً قاتلة من الممارسات والفواجع المدمرة، ويفضي إلى هيمنة غربية على الأمة الإسلامية، ومن البديهي أن الأمة المسيطرة تسعى لفرض معتقداتها وثقافاتها ومصالحها على الأمم المستجدية.