للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرحلات في ميزان الشريعة]

الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الأنصار، وعمر الأرض بالديار، وباعد بين الأقطار، وكتب على الناس الأسفار، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، خير من حل وارتحل، ومكث وانتقل وسار ونزل، أقام فكان الخير في إقامته، ورحل فكان الظفر في رحلته، دلنا على الخير في سفرنا وحضرنا، وإقامتنا وظعننا، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، ومن اهتدى بهديه وسار على أثره واقتدى به في حضره وسفره ما تعاقب الجديدان الليل والنهار.

أما بعد:

فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله عز وجل في كل ما نأتي ونذر، والاستجابة له سبحانه في كل ما نهى وأمر، ولزوم تقواه في الحضر والسفر، لتكن التقوى شعارنا ودثارنا: {اتق الله حيثما كنت}.

أيها المسلمون: قضية مهمة وخطيرة، وظاهرة اجتماعية مؤرقة وكبيرة، جديرة برسم الخطط والمناهج، وإعداد العدد والبرامج لتأصيلها والعناية بها، وبذل مزيدٍ من الجهد حيالها والاهتمام بها، تلكم هي ما يحصل في مثل هذه الأيام من كل عام، حين تشتد حرارة الصيف، ويلقي بسمومه اللافح على بعض أقطار المعمورة؛ مما يحمل كثيراً من الناس إلى الهروب على المصائف والمتنزهات، والفرار إلى الشواطئ والمنتجعات، والعزم على السفر والسياحة، وشد الأحزمة للتنقل والرحلات؛ تذهب إلى المطارات فتجد ركاماً من البشر وفئاماً من الناس يسابقون الريح، وينافسون الآلات سرعة واشتغالاً، قد حملوا حقائبهم، ونقلوا أغراضهم، وأعدوا عدتهم لأسفارٍ كثيرة، ورحلاتٍ طويلة؛ اشرأبت أعناقهم وتطلعت أنفسهم إلى سياحة أثيرة، وتنقلاتٍ مثيرة، مع تباينٍ في حقيقة أسفارهم، واختلافٍ في آرائهم وأفكارهم.

ويتملكك العجب وأنت تقرأ عن السفر والمسافرين الإحصاءات المذهلة، والأرقام الهائلة، ولا ينتهي عجبك وأنت ترى تلك الوفود وقد أقفلت الحجوزات، وتزاحمت على البوابات، وتسارعت لامتطاء المركبات، وكل ما يستهويهم هو تحقيق الرغبات، بل لعل بضعهم ينسى في سبيل ذلك عقيدته وقيمه وأخلاقه، فيجعلها في عداد المخلفين والمخلفات، ولا يمنحها تأشيرة سفرٍ معه، فينزع رداء التقوى وجلباب الحياء قبل أن يطاول الفضاء.

وفي خضم هذه المشاهد والمناظر، ودوامة تلك الأحوال والمظاهر، وحيث إن الإجازة الصيفية هي الوقت الذي يحلو فيه السفر، وتعذب فيه الرحلات، ويحرك في عصى الحل والترحال، والسفر والانتقال، تعالوا -يا رعاكم الله- لنضع هذه القضية على الميزان الشرعي، ونعرضها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع إلماحة إلى واقع بعض الناس فيها، وبيان الآثار السلبية عند غياب الضوابط الشرعية في هذه القضية الواقعية، ولنذكِّر أنفسنا وإخواننا المسلمين ببعض الوصايا النافعة، والملامح الماتعة، التي ينبغي أن يتذكرها المسافرون في أسفارهم، والمرتحلون في تنقلاتهم.