[تعظيم الحرم عند السلف الصالح]
ولقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة في الأدب مع حرم الله عز وجل، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: [[كنا نعد لا والله وبلى والله من الإلحاد في الحرم]] وقال بعضهم: "إن احتكار الطعام وظلم الخادم إلحاد في الحرم".
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: [[لأن أُخطئ سبعين خطيئة بركبة، أحب إلي من أن أخطئ خطيئة واحدة في الحرم]].
أيها المسلمون! حقاً لقد ظهر سر تفضيل هذا المكان المبارك في انجذاب أفئدة المسلمين وهوي قلوبهم، وانعطاف نفوسهم ومحبتهم له، يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً.
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
فلله كم لهذه البقعة المباركة من محب أنفق في حبها الأموال والأرواح، ورضي بمفارقة فلذات الأكباد، والأهل والأحباب والأوطان؟!
محاسنه هيولا كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال
يحدوهم الشوق، ويحفزهم الأمل في مغفرة الله ورضوانه.
أيها المسلمون! يقول الله عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:٩٧] ويقول سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:٩٦ - ٩٧].
مكة المكرمة أفضل البقاع عند الله، وأحب البلاد إلى رسول الله، فقد أخرج الإمام أحمد في المسند والترمذي والنسائي وابن حبان، عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بـ الحزورة -موضع بـ مكة - يقول: {والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منكِ ما خرجت}.
بـ مكة نور يهز الشعور وينطق كل فتى أخرس
يجاذب قلبي إليها الهوى ففي غيرها القلب لم يأنس
وبيت العتيق لنا قبلة نُفدِيه بالنفس والأنفس
لقد ظلت مكة عبر التاريخ، وعلى مر القرون بناءً شامخاً، وصرحاً منيعاً، تتهاوى الدول، وتتساقط كأوراق الخريف، وتحفظ مكة بحفظ الله، رمزاً للإيمان والأخوة، وموئلاً للعقيدة، ومصدراً للدعوة، ومركزاً لأعظم حضارة إسلامية انبثقت من تلك البقاع، حتى غيَّرت مجرى التاريخ، وهزَّت كيان العالم، وزلزلت كيان الوثنية، وحطَّمت عروش الجاهلية.
الله أكبر! بـ مكة عبق الذكريات الخالدة، وشذا البطولات الماجدة.
مكة المكرمة مركز العالم وواسطة الدنيا، وقطب الرحى في كيان هذه الأمة، اسألوا عن ذلك التاريخ من عهد آدم عليه السلام إلى إبراهيم حيث بناء البيت، وحيث المقام والحطيم وزمزم وهاجر وإسماعيل، إلى هود وصالح وموسى وعيسى عليهم السلام، إلى محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه، يصدع بدعوة التوحيد في تلك الربى والبقاع، إلى أن يعود إليها فاتحاً مظفراً، إلى الصحابة الكرام والفاتحين العظام، حتى هيأ الله لهذه البقاع المباركة تلك الدولة المباركة، ترعى شئون الحرمين وتوليهما العناية والاهتمام، أخلص الله أعمالها، وسدد أقوالها وأفعالها، وجعل ما تقدمه في موازينها، وليمت الحاسدون بحسدهم، والغائظون بغيظهم: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:١١٩].