للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية الحديث عن سير العلماء]

الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وقيوم السماوات والأرَضين، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، الذي بلغ البلاغ المبين، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا أيها الإخوة الأحبة في الله: أحييكم بتحية الإسلام: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل هذا اللقاء لقاءً طيباً مباركاً فيه، وأن يجعله في ميزان حسنات الجميع، الذين تركوا أعمالهم وأشغالهم في هذه الليلة وأوَوا إلى بيتٍ من بيوت الله عز وجل، فهنيئاً لهم أن تحفَّهم الملائكة، وأن تتنزل عليهم السكينة، وأن يذكرهم الله فيمن عنده.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لحسن القول والعمل والتطبيق، ونشكر إخواننا في الله، في إدارة مركز الدعوة بمدينة جدة على إسهاماتهم الطيبة، ومن ذلك: الإسهام في هذه المحاضرات القيمة عن تراجم وسير العلماء الصالحين الصادقين الذين عُرِفوا بعلمهم وعُرِفوا بعملهم، وحسن معتقدهم، وعُرِفوا -أيضاً- بمنهجهم الصحيح في العلم والدعوة والحِسبة والإصلاح.

أيها الأحبة: إن هذا الموضوع المهم الذي نحن بصدده -موضوع الحديث عن سير علمائنا الأفاضل وأئمتنا الكرام- موضوعٌ في غاية الأهمية، وتأتي أهمية هذا الموضوع من نواحٍِ كثيرة وأسبابٍ متعددة:

السبب الأول: أن هؤلاء العلماء في الأمة هم أنوار هُداها، وهم مصابيح دُجاها، وهم الشموع التي تنير طريق العلم والعمل والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر.

فإذا كانت هذه مكانة العلماء، فإن الواجب على الأمة أن تعرف سِيَر علمائها، وأن يرتبط خَلَفُ الأمة بسلفها، وأن ترتبط الأجيال المعاصرة والناشئة في عقب الزمن بعلمائهم الذين ساروا على منهج السلف الصالح رحمهم الله ورضي عنهم.

السبب الثاني: مكانة العلم، فالعلم له مكانةٌ عظيمة، وله منزلةٌ رفيعةٌ في هذا الدين، والجهل ظلامٌ وشؤمٌ وبُعدٌ عن الله عز وجل:

وفي الجهل قبل الموت موتٌ لأهله وأجسامهم قبل القبور قبورُ

وإن امرؤٌ لَمْ يحيى بالعلم ميِّتٌ وليس له حتى النشور نشورُ

...

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمُ على الهدى لمن استهدى أدلاءُ

وقدر كل امرئٍ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداءُ

ففُزْ بعلمٍ تحيا به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياءُ

وأجلُّ من ذلك وأبلغُ قولُ الحق تبارك وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:٩] {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:١٨].

السبب الثالث: أننا نعيشُ في عصرٍ يمثل عصر غربة الإسلام، وعصر نقص العلماء الذين يسيرون على المنهج الصحيح، وما ذاك إلا لأن كثيراً من العلماء الأبرار انتقلوا من هذه الدار، وهذه ثُلْمَةٌ لا تسد، وفاجعةٌ لا تُعَدُّ ولا تُحَدُّ، فقبض العلماء وموت الأفذاذ من المصائب على الأمة، ويدل ذلك على أن الأمة بحاجةٍ إلى أن تأخذ علم علمائها قبل أن يُفْقَدوا، فإذا انخسفت النجوم وانكسفت وغابت أوشكت أن تضل الهداة.

فالعلماء في الأرض بمثابة النجوم في السماء، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبقَ عالم؛ اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا}.

هذه الأمور تجسد المسئولية على الأمة وعلى شبابها وطلابها أن يرتبطوا بكبار العلماء قبل أن يُفقَدوا وأن تستفيد الأمة منهم ومن علمهم وفضلهم، وأن تقتبس من نور سيرتهم ما يبين لها طريق الحق، هذا هو الواجب على الأمة الإسلامية وعلى شبابها وطلاب العلم فيها وناشئتها بصفةٍ خاصة.

السبب الرابع: أننا نعيش في عصر الفتن، والخلافات وعصرٍ كثُر فيه النزاع والشقاق، وإعجاب كلُّ ذي رأيٍ برأيه، فيجب على الأمة أن تعرف العلم بدليله، وأن تأخذ الحق بناصع حجته وبيانه، وذلك لا يؤديه إلا من رسخت أقدامهم في العلم وثنوا ركبهم، وحنوا ظهورهم سنين عديدة في التحصيل والطلب، ومن ثَمَّ البذل والدعوة والتعليم والجهاد والبلاغ.

السبب الخامس: أن الأمة اليوم يوجد من أعدائها مَن يُلَمِّع رموز الباطل ومن يزين للأمة أصنافاً من أهل العفن، الذين هم ضد قيم الأمة وأخلاقها وعقيدتها، فواجب الدعاة إلى الله وواجب العلماء، وطلاب العلم أن يبرزوا أمثال هؤلاء الأئمة للأمة؛ لأن إبرازهم من أقل الواجب علينا تجاههم.

السبب السادس: أن هناك فجوةٌ كبيرة -ويؤسفنا أن نقول هذا- بين الشباب وبين علمائهم، فإذا سألتَ كثيراً من الشباب عن كبار علمائهم -لا سيما من تُوفُّوا إلى رحمة الله عز وجل- فستجدُ أن بعضهم لا يعرف عن هؤلاء شيئاً، وهذا والله هو العقوق، أن يظل علماء راسخون وأئمة مهديون، وجهابذةٌ بارزون، أن يظل أولئك في طي النسيان إذا ماتوا!!

فيجب على الأمة وعلى العلماء وعلى طلاب العلم أن يبرزوا هؤلاء العلماء للأمة.

ويؤسفني أن أقول: إن عَلَمَنا اليوم الذي نريد أن نتحدث عنه -مع أنه مر على وفاته أكثر من عامٍ وثلاثةِ أشهر أو لعام ونصف تقريباً- لم نر من طلاب العلم فينا ولا من المهتمين من أبرز سيرته، أو حرص على إبرازها أو ذكر نشاطه ونتاجه العلمي ومنهجه الدعوي، وذلك من الخطورة بمكان، فإن موت العالِم ثلمة في الأمة، ويجب على هؤلاء العلماء وطلاب العلم أن يكونوا على صلةٍ بعلمائهم فالعلماء هم الذين يبينون الطريق الصحيح للأمة، لا سيما في عصرٍ غلبت فيه الخلافات وكثر فيه النزاع والشقاقات.

فيجب علينا -أيها الأحبة في الله- أن نحرص على سير علمائنا، وأن نستفيد منهم، ولهذا قال بعض أهل العلم: "سِيَر العلماء أحب إلينا من كثيرٍ من الفقه"؛ لأن كثيراً من الفقه إغراقٌ في مسائل فرضية أو في مسائل فرعية وجانبية، وقد يكون ليس لها أهمية في مجال العمل والتطبيق، أما سير العلماء -لا سيما إذا عُرفوا بحسن المعتقد وسلامة المنهج- فإبرازهم للأمة هو ترجمانٌ صريحٌ