الحمد لله، أحمده تعالى وأشكره، وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فرض على عباده حج بيته الحرام، فقال سبحانه:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:٩٧] وامتن عليهم بالحرم الآمن، الذي خص بالمحامد والفضائل العظيمة، يقول تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً}[البقرة:١٢٥]، ويقول عز وجل:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}[العنكبوت:٦٧]، ويقول:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}[القصص:٥٧]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وخليله وصفيه {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:٣٣] فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه على دينه، المتمسكين بسنته، المهتدين بهديه، الداعين بدعوته إلى يوم المعاد، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون حجاج بيت الله الحرام! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والوقوف عند حدوده، والتزام هديه في كل أخذٍ وطرح، وفي كل قول وفعل.
عباد الله! لقد منَّ الله على عباده بمواسم الخير، وأوقات الفضل والإحسان، وأزمنة الجود والغفران، ومن هذه الأوقات الفاضلة؛ ما نعيشها في هذه الأيام، من موسم الحج إلى بيت الله الحرام، هذا الموسم العظيم الذي يفيض الله فيه من رحماته على عباده، ومن نفحات بره وجوده وأسراره على خلقه، ويُباهي به الملائكة، ويقول:{انظروا إلى عبادي! أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي ولو كانت ذنوبهم عدد الرمل لغفرتها لهم}.
أيها الإخوة! في هذه الأيام المباركة يتجه المسلمون إلى بيت الله الحرام؛ لأداء فريضة من فرائض الله، تاركين في سبيل ذلك أوطانهم، وأولادهم، وأموالهم، متجهين إلى مكان واحد، في زمن واحد؛ قاصدين رباً واحداً، وهدفاً واحداً؛ فإذا وصلوا إلى الميقات، خلعوا ثيابهم المألوفة، ولبس كل واحد منهم إزاراً ورداءً شبيهة بأكفان الموتى، وكأنهم مسافرون إلى الآخرة، واقفون في عرصات القيامة لا فرق في ذلك بين الصغير والكبير، والغني والفقير، والمأمور والأمير، والأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والمشرقي والمغربي؛ فالكل جاء يقطع البلاد جواً وبراً وبحراً؛ لحضور هذا التجمع الإسلامي الكبير، ً استجابة لنداء الله -عز وجل- على لسان خليله وشوقاً إلى لقائه {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج:٢٧]{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحج:٢٨] ويدخلون في حرم الله مُحرمين خاضعين خاشعين متذللين، قد تركوا ما فاتهم، واتجهوا إلى الله بقلوبهم وأبدانهم، ويترقبون في تلك المشاعر العظيمة من الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بـ عرفة، والمبيت بـ مزدلفة ومنى، ورمي الجمار، وذبح الهدي على اسم الله، والحلق أو التقصير وغيرها من أعمال الحج إلى أن يُودعوا البيت، كل ذلك بقلوبٍ خاشعة، وأعينٍ دامعة، وألسنةٍ مكبرة مهللة ملبية داعية.
يالها من مواقف عظيمة! تُسكب فيها العبرات، ويُتاب فيها من السيئات، ويُكثر فيها من الصالحات؛ لتقال العثرات، وتُغفر الخطيئات، وتُستر الزلات بعفو الله ولطفه.