للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المعنى الصحيح لقوله تعالى: ((ولا تنس نصيبك من الدنيا))]

السؤال

فضيلة الشيخ! قلتم: إن أمر العبادة ليس مقصوراً على الصلاة وفي المساجد فقط، بل هو أشمل من ذلك وأعم.

ف

السؤال

ما قولكم لمن إذا قلتُ له: اتقِ الله في نفسك وأهلك، قال لي: يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] فماذا يقال لأمثال هذا -جزاكم الله خيراً-؟

الجواب

يجب على المسلم -كما عرفنا آنفاً- أن يفهم سعة العبادة في هذا الدين، وعليه أن يعرف أن ما وقع فيه كثير من الناس -هدانا الله وإياهم- من التقصير في هذا المجال، وجعل العبادة في زوايا أو في أماكن معينة، وفي أوقات محددة، ثم إذا خرجوا منها أو فارقوا هذه الأماكن والأوقات رجعوا إلى معصية الله عزَّ وجلَّ، أو رجعوا إلى الدنيا، هذا أمر خطير، وأعني بقولي: رجعوا إلى الدنيا، أي: انصرفوا إليها بالكلية، ونسوا الله والدار الآخرة.

أما الاحتجاج بهذه الآية، فإنه احتجاج في غير محله، فهذه الآية تعني أن على المسلم أن يكون دائم العمل للآخرة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:٧٧] وألا تشغله الدنيا عن الآخرة، ومع ذلك: فإن عليه أن يقوم بالأمور التي لا يستغني عنها في هذه الحياة، أو التي يحتاجها في هذه الحياة، من تأمين مسكن مناسب له ولأسرته، ومن الكدح، وطلب الرزق، من غير ما تجاوُز، ومن غيرما مشغلة عن الآخرة، وأن يقوم بما لا يستغني عنه المسلم في هذه الحياة، بل إن الإمام التابعي الجليل مجاهد بن جبير، قد فسر هذه الآية تفسيراً لطيفاً، يقول رحمه الله: [[إن قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] ليس معناه العمل للدنيا، وإنما لا تنسَ نصيبك من الدنيا أن تعمل للآخرة في هذه الدنيا]] فإن النصيب الصحيح والنصيب الحقيقي هو ألا تضيع هذه الدنيا هنا وهناك، بل نصيبك في هذه الحياة هو العمل الصالح الذي ستلقاه غداً.

وعلى كل حال! فنحن لا نريد من المسلمين أن يدخلوا المساجد ويُغلقوها ولا يعملوا للدنيا! لا.

يجب على المسلمين أن يكون عندهم من سعة الأفق ومن المعرفة التامة لمقتضيات هذا الدين ما يجعلهم يبتعدون عن الشطحات التي هي -في الحقيقة- نقص في التفكير.

ليس معنى الأمر بالعبادة والتأكيد عليها أن المسلم يظل مدى حياته راكعاً ساجداً! لا؛ بل هذه وإن كانت من أعظم العبادات، فإن العبادة أعم من ذلك، فالدنيا كلها ينبغي أن تُعمر بالعبادة، في أعمالك، وفي أقوالك وتصرفاتك، في أموالك، كل ذلك عليك أن ترعى العبودية لله عزَّ وجلَّ، وأن تحذر من البُعد عن الله عزَّ وجلَّ فيها، فليس في هذا الدين: (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)! الأمور كلها لله عزَّ وجلَّ، حتى أمورك الدنيوية ينبغي أن تقصد بها ما عند الله، وأن تخلص لوجه الله سبحانه وتعالى.

فالحمد لله، فإن من نعم الله عزَّ وجلَّ، ومن محاسن هذا الدين، أن تكون هذه العبادة بهذا المفهوم، فنوم الإنسان في أول الليل ليقوم آخره؛ ليتهجد ويصلي ما كُتب له، فنومه عبادة من العبادات، وتناوله طعام السحور أو أي طعام؛ ليقيم صلبه، وليؤدي ما أوجب الله عليه، إذا احتسب وأخلص نيته لله، فهو في عبادة، ومعاشرته لأهله قصده إعفاف نفسه، وإحصان فرجه، وغض بصره، وابتغاء الذرية الصالحة يُؤجر على ذلك في كل لحظة من لحظاته.

يجب ألا تغيب عن الله، يجب ولا تنسى الله جل وعلا، فإن ذلك عواقبه وخيمة.

فعلى كل حال! لم يُصَب المسلمون اليوم بمثل مصيبة الجهل بالدين، وانحسار مفهوم العبادة الصحيح في مجتمعاتهم، قد تحدث أحداً أو تنكر عليه، أو تنصحه في شأن أهله وأبنائه، فيقول لك مثلاً: إن الدين في المسجد، أو إن الصلاح في القلب، أو ما إلى ذلك من العبارات التي نسمعها من كثير من أبناء المسلمين الذين يُفترض فيهم أن يتصدوا لشُبه الأعداء، لا أن يكونوا هم عالة على هذا الدين؛ لكن -مع الأسف- لما أُهِمل أمر هذا الدين، ونشأ شباب المسلمين على غير العبادة الصحيحة، وتلقفتهم المناهج والوسائل المخالفة لمنهج الإسلام الحق، أصبح أبناؤنا يعيشون حياة أوصافها يعجز اللسان عن ذكرها، فوضع المسلمين ووضع شبابهم وأبنائهم وضع خطير، بل إن كثيراً من الناس من ترك دين الله وراءه ظهرياً، ومن ضرب بدين الله عرض الحائط، ولم يُبالِ بأوامر الله عزَّ وجلَّ، فلا يرعى صلاةً، ولا يؤدي لله حقاً، ولا يقوم بواجب، إنما هو -والعياذ بالله- في غَيٍّ وجهالة ومنكرات وضلالات وانحرافات مخالفة للإسلام.

أهكذا يعيش أبناء المسلمين الذين يجب أن يكون كل واحد منهم كما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغيرة على هذا الدين والانتصار له؟!

ومع ذلك فقد وجد أعداؤنا في المسلمين الأرض الخصبة؛ لنشر أفكارهم وترويجها بين أبناء المسلمين، وفعلاً: تجد كثيراً من أبناء المسلمين ضحايا هذا الغزو العقدي والأخلاقي والفكري، يترجمونه عملياً، بهذه الكلمات أو هذه الأقوال، فلا يعرفون حقوق الله سبحانه، ولا يعرفون حقوق عباده.

إذاً: المسئولية عليكم جميعاً أيها الإخوة في الله! كلٌ فيما يستطيع، كلٌ عليه أن يتحرك لهذا الدين، وكل في مجاله، أن يقوم بهذه العبادة.

هذا ميراث النبوة، وهذا عمل رسل الله جميعاً عليهم الصلاة والسلام، فيجب علينا جميعاً أن نعتني بهذا الأمر، وأن نتذكره وألا نغفل عنه طرفة عين.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.