للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقسام القلوب]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله.

أما بعد:

إخوة الإسلام: في خضم مشغلات الحياة، وتزاحم مغريات الدنيا، وطغيان الماديات، وغلبة الأهواء، يغفل كثير من الناس عن الأخذ بأسباب السعادة والفلاح في الدنيا، والفوز والنجاة في الآخرة، وإن هذه الأسباب منوطة بأمر واحد، هو قطب الرحى في هذه القضية، يفصح عنه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} ففي هذا الحديث العظيم إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه بحسب صلاح حركة قلبه.

فإن كان قلبُه سليماً، ليس فيه إلا توحيدُ الله وخشيته، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبتُه؛ سلِمَت حركات الجوارح، ونشأ على اجتناب المحرمات والمحدثات.

وإن كان القلب مريضاً فاسداً، قد استولى عليه اتباع الهوى، وغلبه حب الشهوات؛ فسدت حركات الجوارح، وانبعثت إلى كل معصية، ونشطت في كل ضلالة، ولهذا يُقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، فإذا كان القلب صالحاً؛ كانت الجنود صالحة، وإن كان فاسداً؛ كانت جنوده فاسدة.

قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله في انقسام القلوب إلى صحيح، وسقيم، وميت، ما خلاصتُه: لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها، انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة: فالقلب الصحيح هو القلب السليم، الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].

فهو الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غيره صلى الله عليه وسلم، وسلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه، بل قد خلصت عبوديته وعمله لله تعالى، فإن أحب؛ أحب في الله، وإن أبغض؛ أبغض في الله، وإن أعطى ومنع فلله وحده، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعقد قلبه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده -دون كل أحد- في الأقوال والأفعال، ويكون الحاكم عليه في ذلك كله، دقه وجله: هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل، امتثالاً لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:١].

والقلب الثاني: ضد هذا، وهو القلب الميت، الذي لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره، فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه، فمخالطة صاحب هذا القلب سُقم، ومعاشرته صُم، ومجالسته هلاك.

والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة، ففيه من محبة الله والإيمان به ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بينهما.

فالقلب الأول: حيٌّ مخبتٌ واعٍ ليِّن.

والثاني يابس ميت.

والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى, وإما إلى العطب أدنى.

روى الإمام مسلم: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً؛ فأي قلب أُشرِبَها نُكِِتَت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مُجَخِّيَا، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشْرِب من هواه، وقلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض}

وصح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قوله: [[القلوب أربعة:

قلب أجرد: أي: متجرد مما سوى الله ورسوله، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن.

وقلب أغلق: فذلك قلب الكافر.

وقلب منكوس: فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي.

وقلب تمده مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق؛ فهو لما غلب عليه منهما]].