الحمد لله، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وكفى به ولياً حميداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وتمجيداً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، نبي شرح الله صدره ورفع ذكره ووضع وزره وأعلى في العالمين قدره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، بعثه الله بالهدى ودين الحق فأشاد صرح العقيدة، وأرسى قواعد الملة، وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة، فالخير ما جاء به، والدين ما شرعه، والحق ما التزمه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير هذه الأمة وأطوعها له وأحبها لرسوله عليه الصلاة والسلام، وأكثرها اتباعاً له، فرضي الله عنهم وأرضاهم ومن لزم هديهم ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: وصيتي إليكم من هذه البقعة الطاهرة تقوى الله عز وجل، والقيام بعبادته أداء لحقه، وطمعاً في مرضاته، وخوفاً من عقابه، كما أوصيكم ونفسي بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ أوامره، والبعد عن زواجره، ولزوم سنته، والتعبد لله بشريعته؛ لنحقق الفوز بالسعادة الأبدية، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النور:٥٢].
عباد الله: يحتاج المسلم في هذه الحياة أن يرسم لنفسه -إن أحب نجاتها- منهجاً سليماً من التعثر، بعيداً عن السبل، يضمن وصوله -بإذن الله- إلى هدفه المنشود.
فكما أن الناس في أمور دنياهم يعدون الخطط ويرسمون المناهج للوصول إلى مبتغاهم وما يؤملون دون تعقيد ولا مصاعب، فمن أراد سفراً فإنه يجتهد غايته، ويبذل وسعه في إتقان خطة السير لمعرفة الطريق وسلامته من المخاوف، والوصول بأقصى سرعة دون ضياع ولا عقبات، فكذلكم -يا عباد الله- من كان مسافراً إلى الآخرة، باحثاً عن السلامة والنجاة، راغباً في نعيم الله وجنته، خائفاً من عقابه وناره؛ فأولى له ثم أولى له أن يجتهد غاية الاجتهاد في معرفة الطريق الموصل إلى الله دون زيغ ولا ضلال؛ خشية أن يفجعه الأجل فيلقى ربه على غير هدى من الله، ولا أثارة من علم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن يجب على المسلم في هذه الحياة -لا سيما مع كثرة الفتن وغلبة الاختلاف والهوى، وشيوع مظاهر المخالفة للكتاب والسنة- أن يسير في حياته ملتزماً بكتاب الله، مقتدياً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتفياً آثار سلف هذه الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابعيهم بإحسان من أهل القرون الثلاثة المفضلة، المشهود لها بالخيرية من رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
ولما كادت معالم هذا المنهج أن تخفى، وأوشكت دلائله أن تمحى، وآثاره أن تندثر، ومعالمه أن تلتبس؛ كان لزاماً أن يذكر المسلمون به؛ فيعملوا به؛ ليعود لهم سالف عزهم، وظاهر مجدهم، وسابق حضارتهم، فالمسلمون في أعقاب الزمن لغلبة الجهل بدين الله، وقلة البصيرة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ محتاجون لوضع تأصيل علمي وعملي، وتقعيد منهجي شرعي، يكون منطلقاً للعمل المثمر والجهد البناء الذي يوصلهم إلى الله دون مخالفة ولا مجاوزة، لا سيما في قضايا الاعتقاد والاتباع.