[الاعتبار بما مضى]
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، ييسر عسيراً، ويجبر كسيراً، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً، سبحانه وبحمده، جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها ليوم كان شره مستطيراً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، فصلوات الله وبركاته عليه، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فمن رام خيراً غفيراً ورزقاً وفيراً ومقاماً كبيراً؛ فعليه بتقوى الله، فمن حققها حقق في الدنيا مجداً أثيراً، وفي الآخرة جنة وحريراً، ورَوحاًَ وعبيراً.
أيها المسلمون: في ظل ازدلاف الأمة إلى عام جديد، وتطلعها لمستقبل مشرق رغيد؛ تبرز بجلاءٍ قضايا حولية، وموضوعات موسمية، جديرة بالإشادة والتذكير، وحفية بالتوقف والتبصير، علها تكون محركاً فاعلاً يستنهض الهمم ويشحذ العزائم لمراجعة الذات، وتدقيق الحسابات، وتحديد الرؤى والمواقف، وتقويم المسيرة لتستعيد الأمة تاريخها المجيد ومجدها التليد، وما امتازت به من عالمية فريدة، وحضارة عريقة، بوأتها في الطليعة بين أمم الأرض قاطبة، والإنسانية جمعاء.
معاشر المسلمين: إن قضية المناسبة تكمن في وقفة المحاسبة، فاستقبال الأمة لعام جديد هو بمجرده قضية لا يُستهان بها، وإن بدا في أنظار بعض المفتونين أمراً هيناً لطول الأمل والغفلة عن صالح العمل.
وإن في مراحل العمر وتقلبات الدهر وفجائع الزمان لعبرة ومزدجراً، وموعظة ومدَّكراً، يحاسب فيها الحصيف نفسه، ويراجع مواقفه، حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غِرَّة، ويكون بعد ذلك عظة وعبرة.
ولئن أُسدل الستار على عام مضى فإن كل ماضٍ قد يُسترجع إلا العمر المنصرم، فإنه نقص في الأعمال، ودنو في الآجال.
نسير إلى الآجال في كل لحظةٍ وأيامنا تُطْوَى وهن مراحلُ
وإذا كان آخر العمر موتاً فسواءٌ قصيرُه والطويلُ
فكم من خطوات مُشيت، وأوقات صُرفت، ومراحل قُطعت؟! ومع ذلك فالإحساس بمضيها قليل، والتذكر والاعتبار بمرورها ضئيل، مهما طالت مدتها، وعظُمت فترتها، ودامت بعد ذلك حسرتها.
إخوتي في الله: إن عجلة الزمن وقطار العمر يمضيان بسرعة فائقة، لا يتوقفان عند غافل، ولا يحابيان كل ذاهل، كم ودعنا فيما مضى من أخ وقريبٍ؟! وكم فقدنا من عزيز وحبيب، هزنا خبرُه، وفجعنا نبؤه؟!
حتى إذا لم يدع صدقه أملاً شرقت بالريق حتى كاد يشرقني
لقد كانوا زينة المَجالس، وأُنسها، سبقونا للقبور، وتركوا عامر الدور والقصور.
فاللهم أمطر على قبورهم سحائب الرحمة والرضوان، ولا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
فالله المستعان!
إلى متى الغفلة يا عباد الله؟!
ماذا ران على قلوبنا؟!
وماذا غشي أبصارنا وبصائرنا؟!
إن الموفق الواعي من سعى لإصلاح حاله ليسعد في مآله، وإن الكيس الملهم من أدام المحاسبة، وأكثر على نفسه المعاتبة، وتفقد رصيده الأخروي، وحاذر كل لوثة عقدية وفكرية وسلوكية؛ ليحيا حياة السعداء، ويبوَّأ نزل الشهداء، وما ذلك بعزيز على ذي المن والعطاء.